بعد قراءة ”تاجيمارا“

Navigation

بعد قراءة ”تاجيمارا“

هناك طرق تبدأ في الكتب وتنتهي في الحياة، على الرغم من أن العكس غالباً هو الصحيح.
Rodolfo Lara Mendoza

رودولفو لارا ميندوزا كاتب كولومبي. له كتاب قصص قصيرة بعنوان La gravedad de los amantes (Editorial UIS، 2016؛ Cero Squema Editores، 2022) وكتابا شعر بعنوان Esquina de días contados (Pluma de Mompox 2003) Y pensar que aún nos falta esperar el invierno (Pluma de Mompox 2011) و Alguna vez, algún lugar (Turpin Editores، 2018)، وهذا الأخير مدرج في مجموعة Palabra de Johnnie Walker، التي نُشرت في إسبانيا.

لا أعرف أي آلية غامضة قادتني من قصة لغارسيا بونس إلى حلقة قديمة كنت أعتقد أنني نسيتها، ولا أعرف أي أهمية يمكن أن يكون لها اليوم. هناك طرق تبدأ في الكتب وتنتهي في الحياة، على الرغم من أن العكس هو ما يحدث عادة.

تحمل القصة عنوان ”تاجيمارا“، وربما لأنها تُروى من داخل سيارة، فقد أعادتني قراءتها إلى الماضي. لذا، بعد قراءتها، عدت لأرى نفسي طفلاً صامتاً، جالساً في الحافلة التي كان أحد جيران الحي يقلني بها إلى المدرسة. كانت حافلة صفراء، مخصصة لنقل عمال إحدى المؤسسات الحكومية. من أحد مقاعدها، رأيت في صباح ممطر، نفس ”أشجار التنوب التي تهزها الرياح، والجبال البنية، والسماء الرمادية الباهتة“ التي يراها راوي ”تاجيمارا“. على الرغم من أنه لا توجد أشجار تنوب في مدينتي، ولا توجد جبال سوى تل صغير يتلاشى لونه النباتي مع مرور الوقت الجاف.

كان ذلك في الثمانينيات. كنت أعيش في حي في الضواحي. في شارع يضم تسعة عشر منزلاً صغيراً، منازل صغيرة خلافا للارواح الكبيرة التي تسكنها. يمكنني تسمية كل واحد منها واحداً واحداً والإنصاف أمام الزمن الذي يصر على محوها. أضع يدي في مصنع النسيان هذا في محاولة شرسة لإنقاذها من الموت. إعادة خلق حياتها، إحياء حبها... أليس هذا ما يفعله الأدب؟

La Noche

Juan García Ponce | La Noche | ERA | 87 paginas | 6,56 USD

 تضمنت مجموعة القصص القصيرة التي صدرت عام 1963 بعنوان La noche (الليل)، قصة ”تاجيمارا“ التي تسلط الضوء على علاقة الحب والكراهية بين الراوي وسيسيليا، ولقاءاتهما وافتراقهما، و”اللعبة الغبية الأبدية“ التي كان يمارسها: ”مهووس نرجسي ومهووس بالأنا وجد الشريكة المثالية“. تقدّم لنا القصة سطرًا بعد سطر،  قائمة من الجروح. في أحد الأيام الممطرة، بينما كانت سيسيليا تقلّه إلى حفلة في قرية على مشارف العاصمة مكسيكو تدعى تاجيمارا، يتذكر الراوي المرّات التي قام فيها بهذه الرحلة معها إلى ورشة جوليا وكارلوس، شقيقان يبدو أن هناك علاقة محرمة بينهما. أثناء استماعه إلى ثرثرة سيسيليا، يعود الراوي إلى السنوات التي كان فيها مغرماً بها، والمرات التي اعتقد فيها أنه نسيها ثم يراها تظهر بعد فترة، مستعدة لإثارة مشاعره مرة أخرى:

في السابق، كنت أنا وسيسيليا قد قطعنا هذه المسافة البالغة عشرين كيلومتراً مرات لا تحصى، لكن المناظر الطبيعية لم تبدُ لي أبداً بهذه الكآبة كما تبدو الآن. في حقيقة الأمر، كانت قيادتها للسيارة دائمًا أمرًا رمزيًا. لقد قادتني إلى حيث أرادت طوال حياتي، وعندما ظَهَرت فجأة بعد ستة أشهر من عدم رؤيتها لتدعوني مرة أخرى إلى تاجيمارا، لم يكن لديّ الوقت حتى لأفكر في ما أشعر به، فقبلت ببساطة، مدركًا أنني لن أعرف أبدًا ما إذا كنت أحبها أم أكرهها.

بعد أربع سنوات من نشر ”تاجيمارا“ في عام 1967، تم تشخيص غارسيا بونسى بمرض التصلب المتعدد. بدأت حياته تتدلى من خيط رفيع. بدأ تدريجياً يفقد قدرته على الحركة. صوته، الذي كان سلساً حتى ذلك الحين، بدأ يتباطأ حتى أصبح غامضاً، أخرقاً، متقطعاً. وكما صوته، كذلك ما أكتبه: قصة تريد أن تمضي قدماً وتتعثر في فجوات ذاكرتي.

لا أعرف إن كنت قد ركبت تلك الحافلة خلال السنوات الست من الدراسة الثانوية، بين عامي 1985 و1990. لا بد أنني فعلت: كان هناك نقص في الحافلات والجار لم يكن يأخذ مني أجراً. حدثت أمور فظيعة في بلدي خلال تلك السنوات. ثوران بركان نيفادو ديل رويز. اقتحام قصر العدل. اغتيال مدير صحيفة إل إسبكترادور: غييرمو كانو. مأساة فيلاتينا. الهجوم بسيارة مفخخة على مبنى دائرة الاستخبارات الوطنية. اغتيال المرشحين للرئاسة برناردو جاراميلو أوسا، ولويس كارلوس غالان، وكارلوس بيزارو ليونغوميز. وبين هذه الأحداث، عودة والدي. كانت ردة فعلي على هذا الحدث مروعة. كان قد غادر المدينة بعد انفصاله عن والدتي، وفي أحد الأيام عاد لزيارتنا. عندما علمت بذلك، اختبأت في الفناء. بقيت مختبئًا بين دجاجاتي لفترة طويلة. كان هناك شيء من غارسيا بونس في هذا التصرف. عندما سُئل عن سبب ارتدائه دائمًا ملابس سوداء، أجاب مستشهدًا بشخصية من مسرحية تشيخوف: «لأنني في حداد على حياتي». لطالما ارتديت ملابس ملونة، وفي الفترة الوحيدة التي ارتديت فيها ملابس أحادية اللون، اخترت اللون الأبيض. لكن الحداد، مثل الجنازة، يبقى في الداخل. ”وراء كل خطيئة يوجد آثم يختبئ في الظل ولا يظهر أبدًا“. شيء هش للغاية انكسر في تلك اللحظة: الثقة والحب اللذان كنت أكنهما لوالدي. كنت سأعرف ذلك لاحقًا، عندما فقد آخرون أيضًا الثقة والحب اللذين كانوا يكنونهما لي، ورأيت نفسي ضائعًا في نفس طريق ادمان الكحول الذي ضاع هو فيه.

كانت أولى إعلانات الحافلة تصلنا في الخامسة: كان الجار، بعد أن يضع الماء في المبرد، يقرع غطاء المحرك في صمت الفجر. كان ذلك يحدث بينما نرتدي ملابسنا. أو بينما نحن لا نزال نائمين، مما يجبرنا على الركض. كنا نخرج الى الحافلة قبل أي طفل آخر. في الأشهر الأولى من العام، عندما كانت الشوارع لا تزال مظلمة، وحتى شهر مايو عندما كانت الشمس تضرب وجوهنا. أستخدم صيغة الجمع لأنني كنت برفقة أطفال آخرين. صديقان من الطفولة. النيجرو، الذي كان يدرس في نفس مدرستي، وبويا، الذي كان يدرس في مدرسة أخرى. كنا نمر أمام مدرستنا قبل الساعة السادسة، ونجوب المدينة من طرف إلى طرف، وبعد ساعة فقط، عندما يكون بويا قد ترجل ونحن في طريق العودة، كنا أنا وإلنيجرو ننزل من الحافلة، إبان موعد فتح المدرسة.

في أحد تلك الأيام، أخذ جارنا أمي جانباً. وأخبرها أن إحدى الراكبات اشتكت من استخدام السيارة كحافلة مدرسية، ولهذا السبب يجب أن يتركني في الطريق، حتى لا تراني تلك المرأة. لم يؤثر ذلك على أصدقائي: كان النيجرو ابن الجار، وكان بويا ينزل قبل مكان صعود المرأة بقليل. لابد أنني شعرت بأن ذلك ظلم. أن ينزلني شخص لا يعرفني... شيء مشابه حدث لشخصية ”تاجيمارا“. كانت سيسيليا تنزله وتصعده من حافلة مشاعره كما تشاء:

الأمسيات الطويلة التي كنت أحاول فيها إرضاءها ورائحة أجسادنا المتشابكة بعد ساعات طويلة من الحديث في السرير وأرجلنا متشابكة، واغطية ملطخة بالرماد. "أحيانًا لا أشعر بأي شيء. لا فائدة. دائمًا ما يحدث لي نفس الشيء. أنا بخير.” دائماً مع من؟ ولكن بعد ذلك، مع العرق المتشابك، كانت تلف ساقيها حول خصري وأنا أبحث عنها في داخلها، وبعد أن تتقلب وتشتكي وتتنهد، كانت تسترخي أخيراً وتهمس “شكراً، شكراً لأنك انتظرتني" (...) ثم تقضي اليوم كله معي. لم أملّ من النظر إليها. ”أنتِ، أنتِ“. ”لا، لم أعد تلك الفتاة. لا تحلم، لا تختلق. كل شيء انتهى“.

سيسيليا لم تحب سوى نفسها، لكنه لم يلاحظ ذلك. أو ربما لاحظ. الحب وخداع الذات يسيران في نفس الحافلة، وهما جاران مقيدان بالجلوس معاً. لا عجب أن يقول الراوي: ”نحن نؤلف كل شيء بخيالنا ونحن عاجزون عن عيش الواقع ببساطة“.

أتذكر جاري كرجل شريف، ذي مبادئ أخلاقية صارمة. كان شديد الصرامة ومتحفظًا بالنسبة للأجواء الاحتفالية التي كانت تسود الحي. كان بإمكانه أن يقرر عدم اصطحابي، لكنه، لسبب ما،  اختار أن يكون متساهلًا. ربما رأى فيّ شيئًا من ابنه أو ربما كان يعذبه شبح ما:  ذلك أنه اقترح، قبل سنوات، جمع توقيعات لكي نغادر الحي، بعد أن انفصلت أمي عن أبي وانتقلت للعيش مع رجل آخر.

على أي حال، منذ ذلك اليوم بدأ الانتظار. منذ تلك الساعة التي كان فيها الظلام لا يزال يخيم على الشارع عندما كانت الحافلة تقلني الى أمام المدرسة. منذ تلك الساعة التي كنت أجلس فيها على حافة الرصيف وأعد الدقائق حتى يفتح الحارس البوابة. الانتظار والوحدة في تلك الشارع الذي لا يمر فيه أحد، أو القليلون الذين يمرون فيه ما زالوا غارقين في نومهم. أناس بالكاد يلقون التحية دون أن يتركوا مجالاً لأدنى محادثة. حينها كنت أرغب في قراءة ”تاجيمارا“. أردت أن أتعرف على سيسيليا، المرأة في القصة. متقلبة المزاج كما لا أحد، سخيفة إلى حد الملل، ”هشة، سخيفة، خجولة ووقحة... صعبة الفهم ومضطربة، وأحيانًا غبية أيضًا“. نفس المرأة التي أنزلتني من الحافلة، أعرف ذلك الآن، بعد أن نقلتني إلى واقع تلك السنوات في حلقة زمنية غريبة. هكذا فقط أستطيع أن أفهم كيف كانت، ومن كانت، وماذا كانت تكنّ لي. فأنا لم أعرف اسمها قط، ونسيت وجهها. ربما لم أرها أبدًا، كنت منشغلاً بما كان يقدمه لي العالم الخارجي من اكتشافات: فوضى الصباح في مدينتي الأولى، وبعد ذلك بقليل، هديتها من الوحدة: الانتظار أمام المدرسة التي لم تفتح بعد، وذلك الشعور بالأسى الذي يشبه إلى حد كبير الشعور عند فقدان الحب.