يوم الشمس

Navigation

يوم الشمس

تُعدّ "يوم الشمس"، أحدث روايات هالة كوثراني، أحد الإصدارات الأشد إثارة للاهتمام في العالم العربي في الآونة الأخيرة، وقد أشاد بها النقاد العرب - نقدم مقتطفات قصيرة من هذه الرواية.
Hala Kawarani

أشاد النقاد العرب برواية هالة كوثراني "يوم شمس" باعتبارها عملًا طليعيًا لما تتضمنه من موضوعات شيقة تتشابك بأسلوب إبداعي مع استخدام الخط العربي. لغة الرواية دقيقة وفنية وشاعرية في آن واحد. ولا تنتقص الأبعاد الفنية والثقافية والاجتماعية والسياسية من البنية العامة للرواية التي تُعنى أساساً بقراءة متناقضة للمجتمع اللبناني في فترتين مختلفتين: أصعب سنوات الحرب الأهلية وفترة ما بعد الحرب..
أثنى الشاعر والروائي والناقد العربي البارز عباس بيضون على استخدام الرواية المبدع للخط العربي: "في الكلام المطوّل عن الحروفية استقصاء ثقافي وتاريخي، وما يشبه الأرشيف، أي إننا هنا في محاولة جادة لبناء روائي على الثقافة والأرشيف. هذا ليس جديداً على الرواية العالمية، لكنّه، إلى حدٍّ ما، جديد على الرواية العربية".

Day of the Sun

Hala Kawsarani | Yawn Ashams | Hachette Antoine | 240 pages


أتعامل مع كل شيء ببرود، مع قبح المدينة المتجدّد كل يوم، مع الزحمة في شوارع تأخرت في اكتشافها لأنني كنت ممنوعة من الخروج وحدي. خرجت إلى اللغة، إلى عالمها الحقيقي والمتخيّل، إلى الفنّ حيث تتحوّل مشاهد الحياة إلى مربعات ودوائر ومثلّثات.  
في طفولتي كنت أبحث عن الحروف على اللافتات والجدران وفوق المتاجر. أفتح نافذة السيارة وأخرج رأسي باسمة وأنا أدرس خطوطها الهندسية. أذكر دهشتي بأشكال الحروف. كنت أكره الرحلة من البيت إلى المدرسة، لكن في المرات القليلة التي أخرج فيها مع عمتي لشراء الثياب أو الأحذية أو الطعام، أجلس في سيارتها في المقعد الخلفي وأستمتع بقراءة لافتات المتاجر في الشوارع التي نمرّ فيها. وبعد عودتنا إلى البيت أرسم خطوط الحروف العربية في شكل أساسي، فمعظم اللافتات في بيروت مكتوبة بالحروف المستندة على الأبجدية اللاتينية. أرسم "السين" كأنني أرسم أمواجاً صغيرة، "السين" في لافتة صيدلية «بسترس»، و"الدال" المدوّرة في لافتة «الدار»، وهو متجر لأقمشة المفروشات، و"اللام" المستطيلة في لافتة مطعم «الليل». سأُفتن لاحقاً بخطوط الحروف على ملصقات الأفلام، لكن السينما كانت غائبة عن طفولتي غياباً قاتماً. كانت أهم دور السينما قد أقفلت أبوابها خلال أعوام الحرب الأهلية، وكان ينبغي أن أنتظر عودتها إلى الحياة وتحرّري من سلطة والدي وعمتي لأدخل داراً للسينما للمرة الأولى، وكنت في التاسعة عشرة!  

العالم في حركة دائمة، وأنا أصارع لأبقى مكاني. لأنني حييت وحدي أبحث عن أمي فيّ. أثبتّ أني قادرة على أن أعيش حياة كاملة في شقتنا. وكنت أتخيّل اللوحات قبل أن أرسمها، تهطل عليّ الحروف في رؤى ملحّة. ثم أخرج إلى الدنيا حين يجفّ خيالي. أعتمد اصطناع الهذيان لأخرج داخلي إلى اللوحة. لا أسعى إلى ابتكار ما لم أعشه، ما لم أختبره، ما لم يكن جزءاً من حقيقتي. لست الرحم. لست الحنان الذي لا ينضب. كرهت الأمومة التي قيل لي إن أمي لم تقدّرها ولا شعرت بها. كيف نشعر بالأمومة؟ ثمة عبارات غبية فعلاً، وهذه إحداها. 
أعيش بين أوراق وكرتون وقطع خشب وأقمشة: كتان، وحرير، وقطن وموصلين، أقمشة تخدم أعمالي. لا أستخدم معظمها، لكنني أحلم باستخدامها. أتخيّل العمل كاملاً، تسارع أصابعي إلى ملامسة القماش، أشعر بها دافئة ثم أشعر بوخز إبر يجعلني أتحمّس للعب بالأدوات، اللعب فقط. 
حريتي عثرت عليها في الرسم، في لقاء التجريد مع الحروف التي ربّتني، حروف هي ميراث ومستقبل. أجرّب الألوان، ألعب بها، أغرق الفرشاة بالألوان المائية وأمرّغها فوق غربال، كما كان بول كلي يفعل كي يوزّع رذاذ الألوان. الرمادي لوني، الفاتح والداكن، طبقات شفافة من الألوان، طبقة فوق طبقة من الضوء إلى العتمة. 
وكي أخطّ الحروف أستخدم قصبات مختلفة الأحجام لتحديد سماكتها، أتواصل مع القلم والحبر وسطح الكتابة. أمارس المدّ والبسط والتشابك والتركيب والاستدارة. أرسم وأكتب وأعيد الرسم والكتابة، أكرر تمارين التدوين حتى تصبح الحروف جزءاً مني. 
بين ما تركته لي أمي أداة صقل الورق وأصباغ معدنية لم أرمها بعد، وعصا تحريك وأقلام مختلفة لكل جزء من الخط. كانت أمي تحرق بذور الكتّان لساعات وتمزجها بالصمغ العربي والماء. كانت تلوّن الورق بالشاي أو قشر البصل، وتطليه بطبقات من بياض البيض وبطبقة واحدة من النشا وتخزّنه عاماً كاملاً قبل أن تستخدمه. هذه التفاصيل عرفتها من مقابلات قليلة أُجريت معها وبقيت أقاصيص من جرائد سلّمها إليّ زوجها بعد رحيلها. يومذاك أعطاني بعض أدوات أمي ودفتراً خطت عليه تجارب أخيرة في رسم الحروف. ثم اختفى.
علاقتي بالحروف العربية مجرّدة من أي شعور بالرهبة والخشوع مرتبط بفكرة قدسيتها. ولم يكن لجوئي إليها بحثاً عن علاقة روحانية بها، بل كان بحثاً عن أمي، عن مجهول كنت أشعر بأنه جزء مني لكنني لا أعرفه. لجأت إلى الحروف لأنني عرفت أنّ أمي التي تركتني ولم أتركها، كانت مغرمة بها وبخطوطها. لم ألجأ إلى الخط لأنه «هندسة الروح»، كما يقال، لم أسع إلى هندسة روحي المدمّرة، فتحرّرت من التقنيات الكلاسيكية إلى الفن بما هو سماء لا حدود لها. لكنني احترمت تأثير الخط بأنواعه المختلفة لا كتصميم للكتابة أو «مرتبة ثانية من الدلالة اللغوية» كما قال العظيم ابن خلدون، بل للانسجام والتناغم والسلاسة التي افتقدتها في حياتي ووجدتها فيه، وللتأثير الدرامي الذي يمكن أن يتركه فيّ. أعشق الكوفي الذي يبدو دوماً حديثاً، وأبحث عن الصفاء في أشكال حروفه الهندسية، والأندلسي المقوّس الأشكال والليّن والمنساب. أتمسّك باستدارات النون والواو والباء، باللام والصاد. تشبهني أقلامي المصنوعة من خشب البامبو، صلبة وجافة. في يديّ خرائط جروح سببتها السكّين المخصّصة لشحذ الأقلام. صلبة وجافة، لكن يسهل كَسري.
تعلّمت من الحروف المرسومة الصبر والتوازن، تعلّمت الغموض وألا أدلق غضبي سريعاً كما كنت أفعل في صغري. كنت قد وجدت نفسي. أخيراً شعرت بأنني في مكاني، وبأنّ الحياة يمكن أن تكون سلسة طبيعية رقراقة. كنت قد نسيت. نعم نسيت، صحيح أنّ أبي «في وجهي» معظم الوقت، وأن نسيانه الماضي والحاضر يذكّرني بحياتي في الماضي والحاضر، لكنّ سلاماً غريباً كان قد سكنني. ولم أكن قد عرفت السلام الداخلي من قبل. وكنت قد تحصّنت ضد حروب الداخل. والآن لن أتفاعل أو أنفعل أو أستحضر ما سيعيدني إلى مرحلة ما قبل السلام، هناك، في الداخل.

(...)