حين وقعت يوماً في حبّ مسرح!

روزا ياسين حسن، روائية وكاتبة سورية من مواليد دمشق عام 1974م.
درست الهندسة المعمارية ولكنها تفرغت للكتابة. كتبت روزا العديد من الروايات، وكذلك الكثير من المقالات الثقافية والأدبية في العديد من الدوريات العربية والأجنبية. وهي ناشطة نسوية، تعتبر جزءًا من (الموجة النسوية الثالثة)، وقد عملت كثيرًا على قضايا النساء. أصبحت منذ العام 2015 م عضوًا في نادي القلم الدولي وتقيم منذ نهايات العام 2012م في هامبورغ في شمال ألمانيا.
تبدّل طاقات الأمكنة والبشر:
في يوم ما وقعت في حبّ مسرح الحمراء في دمشق.
اكتشفت فيه رجلاً مفعماً بهدوئه الباذخ، الحياة تجري من حوله سريعة صاخبة وهو راسخ لا شيء يعنيه من كثرة الأقاويل حول أهميته أو تأثيره، ممتلئ بنفسه وحنون! متعدّد الحالات كما كلّ من مسرحياته، رومنسي، عبثي، وجودي، كوميدي، فلسفي، يفيض شغفاً وأحياناً صادح بالموسيقا. كنت أحبّه في كل حالاته، كما أحبني هو في كل حالاتي. راحت علاقة روحية تتعمّق بيننا. أتى يوم عصيب وباعدنا الزمن كما باعدتنا الجغرافيا، لكنه الحب أقوى من أن تكسره، وألين من أن تؤطره بشرط أو حالة. ما زلت أحلم به دوماً ينتظرني على الناصية هناك، قريباً من بوابة الصالحية، وأنا أكيدة بأننا حين سنلتقي سننسى بلحظة كل سنوات البعد، ويعود حبنا للتحقّق مجدداً.
نعم، يمكن لامرأة أن تعشق مسرحاً، كما يمكن لرجل أن يعشق سينما. أعرف الكثير من علاقات الحب تلك. أبي مثلاً كان عاشقاً لـسينما أوغاريت في مدينته اللاذقية. هل منكم من يعرف سينما أوغاريت؟!
سينما أوغاريت تقع في قلب ساحة سُمّيت باسمها. يفترض بأنها من أقدم دور السينما في مدينتي الساحلية اللاذقية. لتلك السينما مكانة خاصة في قلبي، فقد كانت إحدى قصص الحب التي حدّثني عنها أبي. يمكنني أن أتخيّله بعد سنوات طويلة من رحيله، وهو يخرج من السوق المقبي ككل صباح في أواسط السبعينيات، ويدخل ساحة أوغاريت ذاهباً إلى عمله فتواجهه سينما أوغاريت بكل بهائها في صدر الساحة قبل أن ينعطف يساراً. يسمّره لثوانٍ إعلان الفيلم الجديد على طول واجهتها: غابة من السيقان، يبدو فيها محمود ياسين تحت مجموعة كبيرة من السيقان النسائية المثيرة.
من الجيد أن أبي رحل قبل أن يشاهد الظلام يدمّر أمكنته. لا أصدّق نفسي وأنا أقول ذلك! لكن الموت الفيزيائي يكون في كثير من الأحيان نعمة، كي لا نرى نهايات أحبابنا أمام أعيننا. فواجهة سينما أوغاريت التي حدّثني عنها بكل العشق ستتعفّن، سيتحوّل المكان خلال أقل من أربعين عاماً إلى ثكنة عسكرية مخيفة، يقابلها بناء قبيح للجيش، واجهته عارية إلا من صور الديكتاتور والكتابات المبجِّلة له. لم يعد لملصقات الأفلام الملوّنة مكان على الواجهة، كيف كنت سأصف له سوراً طارئاً من دواليب الشاحنات السوداء يشطر الساحة، ويزداد ارتفاعه باطراد، سوراً بُني لا لشيء إلا ليشوّه شكل الساحة ويسجن السينما، كي ينسى الناس ما كان.
الأمكنة ليست إلا مرايا تعكس حقيقة ساكنيها، مرايا اللاوعي الجمعي.
حين أفكّر بكل ما حصل لهذه السينما التعيسة، لا يخطر ببالي إلا ما رآه „ميشيل فوكو“ يوماً من أن المكان „يتميّز من خلال علاقته بغيره من الأماكن، خاصة تلك المناقضة له، والتي تعبّر بشكل أو بآخر عن مراحل حياة الإنسان“( . للمزيد انظر/ي كتاب: المكان والمعرفة والسلطة، ميشيل فوكو والجغرافيا. قراءة وتعليق: د. كرم عباس عرفة. مراجعة: د. عاطف معتمد. PDF 2013.) . العلاقة بين السلطة والمعرفة والمكان علاقة لا يمكن فصمها. لا يمكننا الفصل بين الحرية والعلاقات الاجتماعية والأمكنة.
قد ننجح في لمس الفكرة هذه بجلاء في سوريا، فمع ازدياد قبضة النظام على البلاد راح حضور المساحة العامة يتضاءل في الحياة اليومية، كما راحت المعاني العميقة القديمة للأمكنة ودلالاتها التاريخية والمجتمعية، وحتى العاطفية والأخلاقية، تتبدّل بشكل صارخ. سينما أوغاريت أصبحت في السنوات الماضية مركزاً لتصدير الشبّيحة والرعب لسكان المدينة جميعهم، وعلى وجه الخصوص لأولئك الذين اعترضوا على حمّام الدم الذي عمّ البلاد منذ بداية 2011. بدلاً من رشدي أباظة ونادية لطفي، سيحلّ أبو جعفر الذي ينظّم مجموعات الموت المنتشرة في أحياء المدينة الملتهبة، وبدل أن تخرج ناهد شريف بكل بهائها من بوابة السينما والناس تصفق وتهلّل لها، ستخرج، وبمنتهى السرّية والصمت، جثث ملفوفة بأقمشة متّسخة لمعارضين قُتلوا تحت التعذيب.
السينما صارت سجناً للتعذيب أيضاً!
هي المدن تمتلئ بطاقات سكّانها، لكن هل كان لأحد أن يتخيّل كيف تتغيّر مصائر الساحات؟ مصائر المدن؟ مصائر البلاد؟!
ساحة أوغاريت كانت أغورا، أي مركزاً للمدينة في عصر الهلينيستيين، المدينة المأهولة منذ العصر الباليوليتي الحجري القديم، ما يقرب من 125000 سنة، تكتنف أقدم آثار لبشر في الألف السادسة قبل الميلاد في رأس الشمرة وأول أبجدية إنسانية. مدينة اسمها اللاذقية، أو راميتا أو لاووذيكيا، متعدّدة ملونة كأسمائها، احتضنت المسيحية الأولى وجرّبت حكم عشرات الدول والاحتلالات، دمّرتها الزلازل مرات وفي كل مرة كانت تخرج من تحت الرماد، كما خرج شعبها مراراً كطائر الفينيق: طوطمهم. عاشت ثورات ومجاعات وكوارث وفجائع وكانت ماتزال شامخة، حتى أتى من أهلها من اغتصب جسدها البحري وشوّه وجهها الذي عاش كثيراً ومازال ساحراً، وجهها الجميل لامرأة ناضجة بحكمة العجائز.
يمكن لمصائر أمكنتنا أن تتأثّر بمصائرنا، تماماً كما تتأثر مصائرنا بمصائرها. ذلك أن علاقاتنا مع الأمكنة لا تختلف كثيراً عن علاقاتنا مع البشر، كما علاقاتنا مع أنفسنا، هي ببساطة تترتّب لتشبه أشكال علاقاتنا مع „الآخر“، قد تكون علاقات حب وقد لا تكون، علاقات مبنية على التعاطف والفهم أو علاقات مناقضة لذلك تماماً، علاقات تحكمها أمزجتنا وتجاربنا وذاكرتنا وأيديولوجياتنا، وكذلك قدراتنا الداخلية على قبول الآخر. وبما أن علاقتنا مع „الآخر“ هي مرآة لعلاقتنا مع ذواتنا، فلكل علاقة مختلفة مع المكان علاقة مختلفة مع ذواتنا.
تقول الباحثة والصديقة „نوال الحلح“: المكان وجهة نظر محدّدة، تتبلور عبر التفاعل بين الشخصيات والأحداث، فليس هناك مكان يتم وصفه إلا من وجهة نظر (. من كتاب قيد النشر للباحثة نوال الحلح بعنوان: تمثيلات الثورة والمنفى في الرواية العربية بعد العام 2011. حائز على جائزة آفاق.) .
حسناً، إن كان الأمر كذلك، فعلاقاتنا مع بعض أمكنتنا القديمة سيكون لها أن تتدمّر، خصوصاً بعد الفجائع التي عاشها السوريون بعد العام 2011، تماماً كما تدمّرت بعض العلاقات مع أصدقاء قدامى ومعارف. هل هذا يعني أن بمقدور المكان أن يكوّن وجهة نظره الخاصة مع مرور الوقت، فمن „يسيطر“ عليه قادر على تغيير رأيه ومواقفه؟! علاقة جدلية معقّدة وتبادلية بين المكان وأصحابه. تتناهشني هذه الأسئلة دوماً، ففي القاعدة الثانية والعشرين من القواعد الأربعين لـشمس الدين التبريزي يقول: „عندما يدخل عاشق حقيقي لله إلى حانة فإنها تُصبح غرفة صلاته. لكن عندما يدخل شارب الخمر إلى الغرفة نفسها فإنها تُصبح خمارته“. هل هذا يعني ببساطة أن تفاعلنا مع الأمكنة يغيّر منها، يبدّل مزاجها ورؤيتها، تماماً كما تبدّلنا الأمكنة. حين ندخل مكاناً يمكننا أن نشعر بطاقة روحه، ثمة أمكنة ذكورية وأمكنة أنثوية، فلم يكن ابن عربي يقصد بقوله: „المكان الذي لا يؤنث لا يعوّل عليه“ إنه تأنيث لغوي فحسب، وإنما تأنيث روحي، محملٌ بطاقة الحياة والاستقبال والقبول والتعدّد والحدس.
في يوم ما راحت بعض أمكنتنا الحبيبة تتحوّل إلى ذكورية غاضبة رافضة وأحادية، كما تحوّلت الكثير من طاقاتنا!
كائن راسخ اسمه: المكان
قالت لي يوماً الدكتورة المشرفة على مشروعي في السنة الرابعة من دراستي للعمارة:
- المكان كائن أنتِ تخلقينه، وكأي مخلوق سينفصل بيولوجياً عنك ليعيش حياته، مشاعره وأفكاره الخاصة. عليك أن تتعاملي مع الأمر على هذا النحو!
احتاج الأمر مني وقتاً طويلاً لأفهم ما أرادت إيصاله لي، فالفهم ليس إلا نتيجة من نتائج وعينا.
المكان الذي نخلقه سيكون له مشاعر عميقة تتفاعل مع ساكنيه، ستتأثر شخصيته بالبيئة المحيطة، كما سيؤثر بتلك البيئة. سيسمع ما يدور داخله وحوله، وسيسمع الآخرون صوته حتى لو لم يدركوا ذلك، أي أنهم سيسمعونه بأرواحهم/ لاوعيهم حتى لو لم يسمعوه بآذانهم/ وعيهم. نحن ببساطة لا نراكم خطوطاً على الورق، ومن ثم حجارة فوق بعضها، بل نبدأ في خلق حكاية كائن أكثر رسوخاً من أي كائن آخر على هذه الأرض، وربما أكثر حساسية.
هذا ما كان المفترض أن تكون عليه دراستي للعمارة، لكن الأمر لم يسر على هذا النحو أبداً.
المشكلة تكمن بأني قادمة من جيل لديه علاقة وبالتالي تجربة شبه مُدَمَّرة مع المكان، كما هي تجربته وعلاقته مع كثير من الأشياء والكيانات والأفكار في „سوريا الأسد“. كما كان مفهوم (الهوية الوطنية) مدمّر إلى حدّ بعيد، كان مفهوم الانتماء إلى المكان مدمّر كذلك، فكيف ستأتي لحظة نتعامل فيها معه باعتباره كائناً كامل الأهلية والحقوق؟!
تعاطي السلطات مع الأمكنة يشبه تعاطيها مع الناس. الأمكنة عبيد مملوكة تماماً كما هم الناس، مراقبَة منتهكَة وخائفة كالناس. غياب العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تبدّى للأسف، وبكل وضوح، في غياب العدالة المكانية، وما حصل بعد العام 2011 من دمار لملايين البيوت والأبنية والساحات لم يكن منفصلاً البتة عن قتل وموت واعتقال وتهجير ملايين الناس، قتل ذاكرة الأمكنة جزء من قتل ذاكرة الشعب كذلك، إعادة خلق ذاكرة وسردية جديدة، سردية الطغاة، ستسم البلاد لردح قادم من الزمن.
مع مرور الزمن وكلما كانت سيطرة نظام البعث على البلاد تزداد، كانت ملامحها تتغير وجمالها القديم يذوي، وملامح البلاد هي أمكنتها. العشوائيات التي ملأت أطراف المدن الكبرى، البنايات القبيحة كمكعبات بيتونية حائلة اللون، الصحراء التي راحت تأكل أخضر البلاد. من يقارن واقع سوريا بماضيها لن يستطيع التعرّف عليها. المدن تشبه البشر، تولد ثم تمر بمرحلة الطفولة والمراهقة، تشيخ وفي النهاية تموت! لكن موت الأمكنة في سوريا كان قسرياً، قتلاً متعمّداً لكبريائها، تهشيماً لكاريزمتها القديمة، نوعاً من الانتقام الضمني. لهذا الانتقام أسباب كثيرة، يمكن تفكيكه اجتماعياً وثقافياً كما سياسياً واقتصادياً، وذلك عبر دراسة ردود أفعال البشر ومشاعرهم وأفكارهم ومعتقداتهم، لكنه تبدى أكثر ما تبدّى في الفضاء العام. يمكننا أن نعرف دمشق في أية حقبة سياسية هي من خلال نظرة بسيطة إلى أمكنتها.
غياب مفهوم „العدالة المكانية“ الذي طوّره الأميركي إدوارد سوجا، بدا جلياً في عموم البلاد، كما بدا جلياً أن عموم السوريين/ات راحوا يوماً بعد يوم يخسرون معركة العدالة الاجتماعية كمعركة حول الجغرافيا. حيث „تتضمّن العدالة الاجتماعية التوزيع العادل والمحقّ في المكان لموارد ذات قيمة اجتماعية، ولإمكانية استخدامها“. في حديث سوجا يمكننا إسقاط تمظهر الظلم السياسي والاجتماعي ذاك في المكان حين ننظر إلى السياسات التقشّفية التي كانت سائدة في عموم البلاد، وكذلك إلى „عمليات إعادة البناء التي وجّهت تخطيط المدن الكبيرة في الأربعين سنة الاخيرة“، وهو يخصّ هنا بحديثه التمدّد العمراني الجديد الذي „يشهد لا مساواة اقتصادية وقطبية اجتماعية متزايدة“ (. للمزيد انظر/ي مقال إدوارد سوجا Edward W. SOJA، بعنوان: THÉ CITY AND SPATIAL JUSTICE، ترجمة: Sophie Didier, Frédéric Dufaux. نشر العام 2009. انظر/ي أيضاً: https://www.jssj.org/article/la-ville-et-la-justice-spatiale/).
مدرستي القديمة المهلهلة مثلاً لم تغدُ مختلفة كثيراً عمّا كانت بدهانها الأبيض الجديد وسورها المعدني الأسود! بقي العلم العملاق لحزب „البعث العربي الاشتراكي“ على واجهتها، بجانبه صورة طولية بحجم العلم „للرفيق المناضل حافظ الأسد“. المدارس كانت ثكنات عسكرية محمّلة بكل ذاكرة الثكنات، وكذا مدرستنا ولكن بدهان أبيض جديد. لم يطل الوقت حتى عادت الكلمات البذيئة والرسوم الجنسية على حيطان حمامات المدرسة وأبواب المراحيض. رائحة نشادر البول الخانقة في مكان ملّوث بالفضلات، وقذارات تمتلئ الأرض بها، هذه هي مدرستنا! حين كنا نأتي صباحاً لنرى بعض المقاعد مكسّرة، وعلى الجدران واللوح رسومات بشعة وشتائم، كان الأمر يثير ضحكنا المكبوت، كما يثير حنق المعلمة التي تستدعي مدير المدرسة ليجلدنا بالتقريع واللوم، وقد يختمها بعقوبات جماعية تطال الصفّ كله. كل ما كنّا نفعله بمرافق المدرسة وأثاثها لم يكن يُشعرنا بالذنب! فالمقاعد ليست مقاعدنا، والمدرسة ليست لنا، تماماً كما الشوارع، فلا ضير من إلقاء الأوساخ فيها، وكما كانت المرافق العامة، الأرصفة، الحدائق، وحتى الأشجار ليست لنا! كان لدينا إحساس مقيم، غير واعٍ، بأن مدينتنا ليست لنا، شاطئ البحر ليس لنا كذلك، وكل ما حولنا ينبئنا بأن إحساسنا صحيح: أنتم لا تملكون شيئاً! ولستم سوى ضيوف في بلاد يملكها „الأب القائد“.
مع مرور الزمن راحت السلطات تهب الأماكن العامة لأشخاص بعينهم، فيما سميّ بسياسات الخصخصة، سواء أكان ذلك بعقود بيع أو بعقود إيجار لسنوات طويلة، كعقود إيجار الأبنية الأثرية. كانت رسالة مبطنة مفادها لا شيء ملككم، حتى أنتم لستم ملك أنفسكم! لا يمكنني أن أنظر إلى جرائم تهريب الآثار التي ارتُكبت كثيراً، إلا كعدم انتماء إلى المكان وتاريخه، بل شعور بعبوديته. من هرّب ويهرب الآثار على استعداد حقيقي لبيع ذاكرة المكان مقابل منفعته الشخصية.
المكان الوحيد الذي من الممكن أن يشعر المرء بأنه „مكانه“ كان: البيت.
لذلك بقي السوريون حريصين على العناية ببيوتهم الخاصة و"امتلاكها“، كأنها محاولة أخيرة للشعور بالانتماء إلى هذه الأرض، أو محاولة لخلق علاقة حميمة مع مكان ما في هذه البلاد التي تزداد غربة. ربما يتذكّر الكثيرون منّا تلك الأصوات التي خرجت بعد موجة التهجير الكبيرة التي عاشها السوريون: كنّا نعيش المنفى في سوريا، وما هذا إلا انتقال من منفى إلى منفى آخر. حسناً، ربما يبدو الأمر مبالغاً به للبعض، لكنه بالتأكيد جزء من مشاعر الكثير من السوريين/ات في منافيهم „الجديدة“!
لكل هذا فللبيت في بلادي قيمة خاصة، لديه سردية وواقع آخر. حدّثني مرة صديقي خلدون، الذي استشهد لاحقاً خلال الثورة، بأنه كان يشتاق لصوت صرير الأبواب في بيت أهله حين أُجبر على البعاد عنه. لكل باب صوته الخاص، صريره المتفرّد، الذي يتحدّث به بنبرته الخاصة إلى سكّانه. لصوت البيت كان الحنين المؤلم لصديقي. اليوم حين أسمع صرير أبواب بيتي لا يمكنني إلا أن أتذكر خلدون. ربما هذا هو السبب الذي يجعلني لا أريد تزييت مفاصل الأبواب!
البيت في سوريا كان فرداً من أفراد العائلة، بل أهم فرد فيها، له وجه ويدان ورائحة وابتسامة ومزاج.
المكان، الزمان، والتهجير:
في الأوقات الماضية بدأت أكتب عن عائلتي، وربما تتفقون معي أننا كلما خضنا في أعمارنا أكثر كلما عدنا إلى الوراء في ذاكرتنا. واحدة من أهم الشخصيات المؤثرة في حياتي هي جدتي لأمي؛ زوجة شيخ معروف، وفي عرف طائفتي فإن شيخاً جليلاً كجدّي لا ينبغي له العمل، الأمر الذي جعل جدتي تحمل عبئاً تنوء خمس نساء بحمله. عملت جدتي في معمل التبغ „الريجي“، حيث ظلت فيه حتى قبل فترة قصيرة من موتها، كما كانت أماً لثمانية أولاد وبنات، وعلى عاتقها مسؤولية كل شيء. الكفاح والقوة والحب اللامشروط هي جدتي. كان لتلك المرأة سلطة غريبة على النبات، يدها خضراء إلى الحد الذي جعل البيت أشبه بجنة صغيرة في حي الشيخ ضاهر وسط مدينة اللاذقية.
في يوم ما من بدايات عقد الثمانينيات من القرن الفائت اضطرت إلى ترك بيتها، فالأحداث (الطائفية) التي عمّت اللاذقية وقتذاك جعلت الكثير من العوائل العلوية تعود إلى قراها بعد فترة ليست بطويلة من مغادرتهم تلك القرى إلى المدينة. جدتي أجبرت على ترك بيتها وعملها ومدينتها الحبيبة في لحظة، خسرت كل أمكنتها في لحظة، وبعد أقل من شهرين ماتت في قريتها البعيدة كمداً! لم يتأخر جدي الشيخ عنها، وبعد ستة أشهر رحل هو الآخر.
أعتقد بأن ذاكرتنا الجمعية، كأهل لبلاد الشام، متخمة بصور وحكايات مشابهة، ابتداء من أساطيرنا وأدياننا مروراً بحكاياتنا الشعبية وأغانينا وليس انتهاء بتدويناتنا الحالية لسردية التهجير، الخروج، الشتات، التغريبة، الاقتلاع، النزوح.. لنسمّها ما شئنا، هي مجرّد اختصارات لغوية لتعابير وأوصاف تكثّف فكرة وحيدة هي شلع البشر من أمكنتهم، أي حرمانهم من أحبتهم، الأمر الذي تعرفه جيداً أنظمة مستبدة تجبر بشراً على الرحيل عن مواطنهم!
التهجير والاختفاء القسري هو رحيل عاطفي للأمكنة عنّا، وليس رحيلنا الفيزيائي عنها فحسب.
كما تُبنى الذكريات والتجارب والعلاقات، تُبنى الأماكن اجتماعياً من قبل أفرادها ومجموعاتها التي تعيش فيها. الإحساس بالمكان والانتماء إليه والتعلّق به، لا ينفصل عن إحساس المكان بنا والتعلّق بوجودنا، للمكان روح ومشاعر وأحاسيس كالبشر، يشتاق لناسه وقد لا ينساهم. وهو كأي كائن يواشج المكان والزمان داخله في لحظة ما، ويضحي من المحال فصلهما عن بعضهما. بتعبير „غاستون باشلار“ فإن „المكان في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها يحتوي على الزمن مكثفاً، هذه هي وظيفة المكان“ (. للمزيد انظر/ي كتاب: جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة العامة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1984).
على هذا فالعلاقة مع المكان علاقة أرواحية عميقة، بعيدة كل البعد عن كونها مجرد علاقة فيزيائية. هل تساءل منكم لماذا لا نحلم في كثير من أحلامنا إلا بأمكنتنا؟ أجسامنا الأثيرية التي تقطع الجغرافيا والزمان تذهب لتعيش في أمكنتها الحبيبة أوقات الحلم، أو لنقل في واقع الحلم. أفكّر أحياناً حين ستعود أرواح أحبابي ستعود إلى أمكنة هُجّرنا منها، إلى قبور لم يعد بإمكاننا أن نزيّنها أو نغطّيها بأغصان الآس والشموع والبخور. هل لذلك نهتم نحن السوريون بقبور أحبابنا؟
التهجير القسري ليس انتقالاً فيزيائياً من جغرافيا إلى جغرافيا أخرى، بل هو جريمة سياسيّة وإنسانية و"عاطفية“ لا تؤثر على الأفراد والمجتمعات ديموغرافياً فحسب، بل تؤثر على لاوعيهم الجمعي برمته. أن نبدأ من الصفر في أمكنة أخرى، يشبه الرحيل القسري عن علاقات حب استثمرنا فيها، يشبه فقدنا لجذورنا، لأساسات راسخة في حيواتنا، لنلفي أنفسنا فجأة في الهواء بدون أساسات ولا جذور.
الحصار: سجن الأمكنة
يمكنني أن أميّز بين التجربتين المؤلمتين والمتناقضتين اللتين تتعلّقان بالمكان: التهجير والحصار. إذا كان التهجير، كما قلت سابقاً، رحيل فاجع للأمكنة، فإن الحصار في المكان، باعتباره تجربة مناقضة للتهجير، هو سجن للأمكنة قسراً بداخلنا، كما هو سجن لنا في الأمكنة. في لحظة ما تتحوّل أمكنتنا المحبوبة إلى تجربة قاسية تغيّر عواطفنا تجاهها، كما تغيّر ذاكرتنا معها.
ربما تجربة السجن هي كذلك شكل من أشكال تجربة الحصار.
في الرواية التوثيقية „نيغاتيف“، التي كتبتها في الفترة الممتدة بين العام 2004 و2007، قمت بإجراء عشرات المقابلات مع مجموعة من المعتقلات السياسيات من مختلف الأطياف السياسية والإيديولوجية. تجربة أولئك الصبايا مع المكان كان ثيمة أساسية مشتركة بين معظم الحكايات. واحدة من أكثر الحكايات تأثيراً عليّ كانت حكاية المهجع رقم 6 في فرع الأمن في العاصمة دمشق(*FN* . للمزيد انظر/ي كتاب/ رواية توثيقية: نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيات في سجون الأسد، روزا ياسين حسن، مركز القاهرة لحقوق الإنسان، القاهرة 2007.*FN*).
المهجع رقم 6 هو زنزانة تحت الأرض، معتمة خانقة على الرغم من وجود نافذة بقضبان معدنية ملاصقة للسقف المنخفض ومفتوحة على أرض باحة السجن الداخلية. هو باختصار جحيم يضيق بأجساد خمس وأربعين سجينة شيوعية. يوماً ما ظهر وجه طفل من تلك النافذة، كملاك تهادى من السماء، وراح يرمي زهرات برية صفراء اللون من خلال القضبان! ولأن الكثير من المعتقلات كنّ أمهات حُرمن من رائحة أطفالهن لسنوات، فقد كان وجود ذلك الملاك كافياً لتحويل الجحيم ذاك إلى جنة مؤقتة. خلال ثوان تغيّرت طاقة المكان: رائحة الصديد والعفن، أصوات التعذيب التي لا تنقطع وإغلاق أبواب الزنازين، كلها.. كلها تلاشت خلال ثوانٍ! إلى اليوم مازالت تلك الذكرى الجميلة محفورة في رأس „منى“ بعد سنوات طويلة من إطلاق سراحها: كيف يتغيّر مكان فظيع برمته ليصبح مكاناً آخر بسبب وجه طفل يرمي لهنّ زهرات برية؟!
أما „ضحى“ التي كانت حاملاً حين تمّ اعتقالها، ووضعت ابنتها في السجن، فقد همست لي يوماً بأنها لم تشعر ببشاعة ذاك المكان الذي يسمى سجناً إلا حين أخذوا ابنتها منها. بعد سنة وشهرين حين أخرجوا الصغيرة „ديانا“ تغيّر المكان الأليف/ السجن ليغدو المكان الوحشي/ السجن!
„أريد أن أضع بحراً في الزنزانة، أريد أن أسرق الزنازين وألقيها في البحر
أريد أن أخطف غيمة وأخبئها في سريري، أريد أن يخطف اللصوص سريري ويخبئونه في غيمة“
جمل من ديوان „رياض الصالح حسين“ كوعل في الغابة، كانت كفيلة بجعل روح „غرناطة“ تغادر جسدها وهي تقرأها ليلاً في عتمة الزنزانة، فجأة ابتعدت الجدران عن بعضها، انشقّ الظلام وغدت الزنزانة غابة! بضع كلمات من قصيدة شعر كانت كافية لبثّ الحب والجمال في مكان قاحل كصحراء ومعتم كقبر، كامرأة ميتة أيقظتها قبلة عاشق! الأمكنة حقاً بشر حقيقية.
لكن في الوقت الذي حوّل التهجير فيه الكثير من أمكنتنا المرتحلة إلى فكرة أشبه بيوتوبيا، إلى فردوس مفقود خالٍ من أي عيب، حوّل الحصار الكثير من أمكنتنا السجينة إلى جحيم. الكثير من السوريين/ات تدمّرت علاقتهم مع أمكنتهم بعد حصارهم فيها. الحصار يحوّل أمكنتنا إلى معتقلات، ويتحوّل تركيز المحاصر كما المسجون إلى غريزة البقاء، البقاء على قيد الحياة، تأمين الطعام المفقود والصراع ضد الجوع. الحصار الفيزيائي في الأمكنة وحضور سؤال البقاء يجعل الذاكرة السابقة حصاراً، كما يجعل العجز حصاراً. وكما يحاول الاعتقال والتعذيب تخريب الإنسان من الداخل، تفكيك رؤيته لذاته وإيمانه وفخره بكنهه الإنساني، وهذه هي وظيفته الأساسية، يعمل الحصار، مع التعذيب الذي يرافقه، على تخريب المكان داخل الإنسان وتفكيك رؤيتنا له، وهذه إحدى أهم وظائفه. فالحرب في سوريا كانت أولاً على امتلاك البلاد، احتلالها، وما التهجير والحصار إلا شكلين متقابلين من تجريد الناس من أماكنها الحبيبة.
غريب كيف تتغيّر ذاكرة مشاعرنا تجاه المكان! قبل الحصار تكون ذاكرة مفعمة بالحب، بعد الحصار تصبح ذاكرة مليئة بالقهر والعوز والألم! لا المكان يبقى المكان، ولا نحن نبقى نحن، ولا علاقتنا تبقى كما كانت، بلّورة من الكريستال ألقاها طفل عابث على الأرض فتشظّت ألف قطعة.
في مكان آخر من العالم وزمان آخر من السرد وعبر مقالة مطوّلة بعنوان: غرفة تخصّ المرء وحده، تعبّر الروائية الإنكليزية „فرجيينا وولف“ عن ذلك التناقض في روح المكان الآتي من تناقض حالته واختلاف تجربتنا معه، حين تقول „إنه لمن البغيض أن يسجن المرء داخل غرفة، وكم هو أسوأ ربما أن يحرم من دخول غرفة مغلقة“ ( . غرفة تخص المرء وحده، A Room of One’s Own، هي مقالة مطولة بقلم فرجينيا وولف، نشرت في 24 أكتوبر العام 1929).
لكن ليس للحصار شكل واحد بل أشكال كثيرة في بلاد الديكتاتوريات:
اللاأمان حصار، الخوف حصار، تهديدك بلقمة عيشك حصار، حين تدفع أثمان „ارتكاساتك“ الإنسانية والأخلاقية. الحصار في سوريا تمثّل ويتمثل في كل ما يحيط بالسوريين/ السوريات، بكل شيء، ابتداء بالموت الذي تعصف رائحته منذ سنوات طويلة، وليس انتهاء بالشك في أن أي شخص، نعرفه أو لا نعرفه، قد يكون مُخبراً للسلطات، حتى لو كان أقرب الناس إلينا.
انكسار الأحلام وفقدان الأمل بالقادم، من أقسى أنواع الحصار!
لكن أكثر الأشخاص الذين من الممكن أن تتشوّه ذاكرة الأمكنة في وجدانهم هم الأطفال. حين يرتبط المكان بالقهر والحرمان والبشاعة والموت، سيتشوّه معناه كما قيمته، كائن أتى إلى الحياة مشوّهاً. هذا ما عبّر عنه „أنطوني لايك“ المدير التنفيذي لليونيسف حين قال: „حياة ملايين البشر في سوريا تحوّلت إلى كابوس لا نهاية له، لا سيما بالنسبة لمئات آلاف الأطفال الذين يعيشون تحت الحصار، ويُقتلون ويُصابون، وهم شديدو الخوف كي يلتحقوا بالمدرسة أو يلعبوا حتى، ويبقون على قيد الحياة بتناولهم القليل من الطعام وبالكاد يحصلون على أي دواء. هذه ليست حياة والعديد منهم يموتون. ( . للمزيد من التقارير انظر/ي موقع يونيسيف: https://www.unicef.org/ar)“
نعم، بالنسبة للسوريين الذين عاشوا الحصار في مناطق كثيرة من البلاد لم تكن تلك حياة. والأمر لا يقتصر على تدمير علاقتهم مع أمكنتهم الأساسية التي سجنوا بها وسجنت بهم واختبروا تجارب فجائعية معها، بل أيضاً لأنهم حرموا من علاقات مع أمكنة أخرى غير متاحة في سجنهم. الأمر ينسحب على مئات آلاف الأطفال في مخيمات اللجوء، الذين تحول بيتهم إلى خيمة ومدرستهم إلى خيمة، وملايين اللاجئين الذين تحول المقهى في يومياتهم إلى خيمة، ولا داعٍ للحديث عن أماكن أخرى تبدّدت من حيواتهم كالمسارح والسينمات والساحات والحدائق وغيرها.. في مخيمات اللجوء ولسنوات طويلة انمسخت الأماكن كلها إلى خيم. خيم تغرق بعد المطر، تطير مع الرياح حين تعصف، وتختنق في حر الصيف، أماكن طارئة عنوانها اللاأمان، الخوف، وغياب الأمل.
نعم، هذه ببساطة ليست حياة!
ساحة الفاروس كخاتمة:
أودّ أن أختم الحديث بقصتي الخاصة مع „ساحة الفاروس“ في مدينتي اللاذقية. لا يمكنني أن أذكر تلك الساحة المسكينة إلا قذرة، مليئة برائحة دخان السرافيس والدجاج والدم، بسبب محلات بيع الدجاج وعشرات السرافيس التي اتخذت الساحة كراجاً لها. المرور عبرها كان بالنسبة لي، وللكثيرين غيري، أشبه بعقوبة. صدمتي الكبيرة كانت حين اكتشفت مؤخراً بأن تلك الساحة هي واحدة من أهم ساحات اللاذقية، بل واحدة من أهم ساحات بلاد الشام كلها. الأمر بالنسبة لي كان شبيهاً باكتشافي أن ذلك المتسوّل المسكين المتّسخ ممزّق الثياب، الذي يبحث في القمامة وهو يحدّث نفسه غاضباً، كان فناناً مبدعاً أو بروفسوراً أو أباً حنوناً مؤثراً، قبل أن ترميه الأيام بحجارتها!
تلك الساحة المهملة البشعة الفاروس كانت قبلاً ساحة „دير الفاروس“ واحد من أهم وأقدم الأديرة المسيحيّة في المشرق العربي، عُثر فيه على نسخة خطّية من الكتاب المقدّس مكتوبة بخط „ثيودوسيوس“، الأُسقُف الرومي في سنة 181 م، الدير ذاته الذي زاره „أبو العلاء المعري“ حوالي سنة 990 م وتعلّم الفلسفة اليونانية فيه!
يحكمني وسواس لئيم لجوج لا أستطيع التخلّص منه: كيف يمكن لمصائر البلاد هذه أن تكون متقلّبة درامية، صادمة فجائعية بهذه الطريقة؟!