المسرح الإفريقي في مواجهة الكلاسيكيات الغربية: نماذج وأبعاد إبداعية
* حامد بن محمد محضاوي (تاريخ الولادة 1987)
كاتب وناقد ثقافي تونسي، حاصل على إجازة في اللغة والأدب العربي. ناشط فني في مجالات المسرح وفنون الأداء، وصحفي ثقافي تونسي سابق عمل على تغطية مهرجانات وفعاليات أدبية وفنيّة في تونس، مسهما في التعريف بالتجارب الإبداعية المعاصرة. له مساهمات بحثية ونقدية منشورة في مجلات ومواقع عربية متخصّصة، تتناول المسرح، الأدب، والفنون البصرية، مع اهتمام خاص بالعلاقة بين العمل الفني والتحوّلات الاجتماعية والفكرية. أصدر مجموعة شعرية " أخلد لوسادة سيوران" تعكس انشغاله بالبعد الإنساني والجمالي للكتابة. شارك في مبادرات ثقافية تهدف إلى ترسيخ الإبداع كقيمة مجتمعية. يزاوج في مقاربته النقدية بين الدقة الأكاديمية والانفتاح على التجارب الجديدة، مؤمنا أنّ الثقافة فضاء حيوي للحوار والتجديد،
لقد شكّل المتن الدرامي الغربي (the Western dramatic canon)، أي ذلك الجسم من النصوص المسرحية الكبرى التي جرى تثبيتها تاريخيًا بوصفها تمثّل "المعايير العليا" للفن المسرحي (مثل أعمال شكسبير وإسخيلوس وموليير وغيرهم)، مصدر إزعاج واعتراض لدى بعض المفكّرين ذوي التوجّه الأفروسنتري (Afrocentrists)؛ أي الذين يسعون إلى قراءة الثقافة والفن انطلاقًا من المركزية الإفريقية. ويرى هؤلاء أن هذا المتن الغربي يفرض معايير غير عادلة تُستخدم للحكم على الأعمال المسرحية الجديدة في القارة الإفريقية، بحيث تُقاس هذه الأعمال دومًا على مقاييس غريبة عن سياقها الثقافي والتاريخي.
وقد ذهب بعض المنظّرين إلى المطالبة بـ التخلّي التام عن هذا المتن (total abandonment)، والدعوة إلى تطوير أشكال وأساليب أداء ترتبط بعمق بالتجربة الإفريقية، سواء عبر استلهام الطقوس، أو الأغاني الشعبية، أو أنماط الحكي الشفاهي، بوصفها أنماطًا أكثر أصالة وارتباطًا بالواقع الاجتماعي والثقافي المحلي.
غير أنّ الموقف الذي يدافع عنه هذا المقال يقوم على ضرورة استيعاب المتن الغربي وإعادة توظيفه (appropriation and repurposing)؛ أي التعامل معه لا بصفته نموذجًا أوروبيًا مفروضًا من الخارج، بل باعتباره مادة يمكن إعادة تشكيلها وتكييفها بما يخدم الحاجات الثقافية والسياسية والإبداعية الإفريقية. فالاستيعاب (appropriation) لا يعني الاستسلام، بل يعني ممارسة فعل نقدي-إبداعي يحوّل النصوص الغربية إلى أدوات للتعبير عن قضايا الذات الإفريقية، فيما يشير إعادة التوظيف (repurposing) إلى نقل هذه النصوص من وظائفها الأصلية (المتجذّرة في سياقات أوروبية) إلى وظائف جديدة تستجيب لمتطلّبات الجمهور الإفريقي وأسئلته. في هذا الإطار، يمكن أيضًا رصد دور الهجين الثقافي (cultural hybridity) والهوية المزدوجة (double consciousness) في توجيه هذه العملية الإبداعية.
وتوجد عدّة نماذج يمكن أن تُنفَّذ من خلالها هذه العملية، تتراوح بين إعادة كتابة نصوص غربية في بيئة إفريقية، أو إعادة قراءة التراث الأوروبي من زاوية ما بعد استعمارية، أو مزج أنماط الأداء التقليدي الإفريقي بالمتون الكلاسيكية الغربية، بما يفتح أفقًا إبداعيًا يتجاوز الثنائية التقليدية بين "الغرب" و"إفريقيا"، ويتيح أيضًا استعادة البعد الميتافيزيقي والطقسي الذي تضمنته النصوص الأصلية.
نموذج المطابقة الإبداعية
يُعرف النموذج الأول عادةً باسم الإحلال أو النقل (transposition)، بينما يطلق عليه بعض الباحثين الأميركيين تسمية "أورفيوس الأسود" (Black Orpheus). ويرتبط هذا المصطلح بمرجع ثقافي وتاريخي بارز؛ فقد استعمله الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر Jean-Paul Sartre في مقالته الشهيرة Orphée Noir (1948)، حيث قدّم بها ديوان الشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور Léopold Sédar Senghor، معتبرًا الشعر الإفريقي صوتًا جديدًا ينهض من رحم التراث الغربي معلنًا فرادته. ثم استُعيد الاسم لاحقًا في نيجيريا عام 1957 من خلال مجلة أدبية أسسها أويليخ باير Ulli Beier بعنوان Black Orpheus، التي أصبحت منصّة بارزة للتعريف بالأدب الإفريقي الحديث وإعادة التفكير في علاقته بالغرب. ومن هنا أصبح المصطلح يحيل في الدراسات المسرحية إلى عملية إعادة إنتاج النصوص الكلاسيكية الغربية داخل سياق إفريقي.
يقوم هذا النموذج إذن على أن يبتكر المسرحيون الأفارقة ما يقابل الأعمال الكلاسيكية الغربية من نصوص مسرحية إفريقية، في علاقة تكاد تكون تطابقًا واحدًا لواحد (one-to-one correspondence) بين الشخصيات والأمكنة والبُنى الدرامية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مسرحية أولا روتيمي Ola Rotimi المعنونة الآلهة لا تُلام The Gods are Not to Blame، المقتبسة عن مأساة سوفوكليس الشهيرة أوديب ملكًا Oedipus Rex. فقد التزم روتيمي بالهيكل ذاته تقريبًا: إذ تحوّل أوديبوس إلى أودوالِه Odewale، وانتقل مكان الأحداث من طيبة Thebes إلى كوتوجي Kutuje، كما جرى تغيير جميع الأسماء إلى ما يقابلها في ثقافة اليوروبا Yoruba.
بهذا التحويل يصبح الموروث الإغريقي مجرّد استعارة ثقافية أو إطار رمزي يُستعاد داخل سياق إفريقي، فيما يتشكّل نص جديد يتناول قضايا إفريقية راهنة، لكنه يستند في عمقه البنيوي إلى الركائز الدرامية الإغريقية. وبذلك يُعاد إنتاج الكلاسيكيات الغربية في قالب إفريقي، فتغدو وسيلة لمساءلة قضايا الهوية والمصير في القارة، لا مجرّد إعادة عرض لنصوص أجنبية.
قدّم ويلكَم مسومي Welcome Msomi مسرحيته الشهيرة uMabatha، التي عُرضت لأول مرة سنة 1971 في المسرح المكشوف لجامعة ناتال (University of Natal’s open-air theatre)، بالمنطق نفسه لنموذج "أورفيوس الأسود". فقد كانت المسرحية مستندة إلى مكبث Macbeth لوليم شكسبير، غير أنّها غيّرت الإطار المكاني والزماني لتُجسَّد في زولولاند Zululand خلال القرن التاسع عشر، في فترة حكم شاكا Shaka ودينغانه Dingane. وبذلك تحوّل بانكو Banquo إلى بهانغانه Bhangane، ولادي مكبث Lady Macbeth إلى كاماندونسِيلا Kamandonsela، والملك دنكن Duncan إلى دانغانه Dangane، في حين أصبح ثين كودور Thane of Cawdor خوندو Khondo. الأهم من ذلك أنّ العرض قُدِّم باللغة الزولوية كاملة، دون أي وسيط لغوي آخر.
من خلال هذه الاستراتيجية، تمكّن مسومي من إعادة برمجة تلقّي النص الشكسبيري بحيث يظهر كعمل إفريقي يعالج قضايا إفريقية محلية. ففي جنوب إفريقيا زمن الفصل العنصري، كانت المؤسسة الرسمية مسكونة بسياسة أفركنة المسرح Afrikanerisation of theatre، أي فرض الهيمنة الثقافية للأقلية الأفريكانية، مع تهميش الثقافة الإفريقية وأنماط أدائها. وإلى جانب ذلك، كانت الأنشطة المسرحية الجذرية تُحظر بصورة واسعة نتيجة صعود حركة الوعي الأسود Black Consciousness Movement.
ومع ذلك، سُمح بعرض uMabatha تحت ذريعة أنّ الأفارقة أنفسهم يساهمون في "استعمارهم الثقافي"، أي أنّهم يعيدون إنتاج نصوص أوروبية في قوالب محلية. غير أنّ الإحلال (transposition) الذي قام به مسومي أدّى إلى عكس ذلك تمامًا: فقد حرّر شكسبير من مركزيته الأوروبية عبر إدماج رقصات زولوية، أغانٍ، قرع طبول، أزياء، وشعر مدحي (praise poetry). وبذلك تحوّلت الثقافة الزولوية المهدّدة من قبل نظام الأبارتهايد إلى ثقافة محتفى بها ومُستعادة تحت غطاء شكسبيري، مما يجعل الأداء فعلًا فنيًا وسياسيًا مقاومًا في آن واحد.
نموذج إعادة الجذور الإفريقية
النموذج الثاني من نماذج إعادة توظيف الكلاسيكيات الغربية، وخاصة تلك ذات الأصل الإغريقي، هو ما يُعرف باسم الاسترجاع (reclamation)، والذي يُسمّيه بعض المثقفين من أبناء الشتات الإفريقي في الولايات المتحدة بـ "أثينا السوداء" (Black Athena). وينبع هذا التوجّه من حقيقة تاريخية مفادها أن جانبًا كبيرًا مما تحتويه المسرحيات الإغريقية من أساطير وآلهة وثقافة أصله إفريقي. فبحسب "أبو التاريخ" الإغريقي هيرودوت، تلقّى الإغريق أساطيرهم وآلهتهم وثقافتهم من المصريين القدماء، الذين كانوا، من حيث السمات الفيزيولوجية، مزيجًا من الأصفر والأسود. ويُستند هذا التصوّر فكريًا إلى كتاب مارتن برنال Martin Bernal: "أثينا السوداء: الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية" Black Athena: The Afroasiatic Roots of Classical Civilization (1987).
في هذا التصوّر، يُعدّ الإله ديونيسوس Dionysus نسخة إغريقية عن الإله الإفريقي أوزوريس Osiris. كما أنّ المصريين هم الذين ابتكروا أنماط الأداء المسرحي الطقسي Performative Theatre، والتي جرى "سرقتها/نسخها/استيعابها" من قِبل الإغريق على هيئة الغناء والرقص الديثيرامبي dithyrambic singing and dancing، قبل أن يطوّروها لاحقًا لتصبح ما يُعرف بـ المتن الدرامي الغربي Western Dramatic Canon، الذي ارتبط بالغرب حصريًا. وفقًا لهذا النموذج، فإن اختيار المادة "المسروقة" من إفريقيا وإعادة إدخالها في المسرح الإفريقي لا يُعد استعمارًا ثقافيًا، بل تصحيحًا تاريخيًا يعيد الثقافة إلى أصحابها الشرعيين.
على الرغم من أنّ البعد الغيبي في المسرح الغربي قد تراجع منذ بروز الحكم البرجوازي الأوروبي، فإنّه ظلّ مكوّنًا أصيلًا في المسرح الإفريقي. ويقدّم المخرج والباحث الزيمبابوي صامويل رافينغاي Samuel Ravengai مثالًا لافتًا على هذا التداخل من خلال مسرحيته «فوماني أوديبوس» Vumani Oedipus، التي لا تقتصر على استدعاء الأسطورة الإغريقية فحسب، بل تُجري عليها تحوّلات درامية وثقافية عميقة تُظهر كيف يمكن إعادة قراءة الكلاسيكيات بما يخدم رؤية محلية مؤثّرة. فقد غيّر رافينغاي الإعداد إلى دولة إفريقية خيالية تُدعى Nguniland، ودمج بين بعض الشخصيات التقليدية مثل الكاهن (priest) والسيناتور (senator) في شخصية واحدة تُعرف بـ Ndunankulu، الأمر الذي يُبسّط الهيكل الدرامي ويُركّز الصراع في علاقات محورية. كما أضاف مواد جديدة من خارج النص الإغريقي الأصلي، وقلّص الحوار وراجع لغته ليتخلّص من الصياغة الرسمية المألوفة في الترجمات الكلاسيكية، ويُقدّم عملًا أكثر قربًا من ذائقة الجمهور المعاصر في جنوب إفريقيا.
غير أنّ التحويل الأعمق يتمثّل في إعادة تشكيل التلقي؛ فالمسرحية لا تُخاطب الجمهور بالإنجليزية فقط، بل تنفتح على عدد من اللغات النغونية المحلية، وهو ما يُبرز تعدّد الهويات الثقافية ويُعيد إدماج التجربة الإفريقية في صلب النص الكلاسيكي. كذلك تستثمر المسرحية حضور الميتافيزيقي والطقوسي من خلال استدعاء الوسطاء الروحيين (sangoma) والطقوس الجماعية، ليس بوصفها عناصر فولكلورية سطحية، بل كجزء من منظومة قيمية حيث القدَر، الأسلاف، والقوى غير المرئية تشكّل معطًى لا ينفصل عن الحياة اليومية. وبذلك يتحوّل النص الإغريقي من مرجع يُستعاد بشكل سلبي إلى فضاء حيّ لإنتاج المعنى، يُعاد تشكيله في ضوء السياق الإفريقي ليطرح أسئلة جديدة حول المصير والهوية والسلطة، تمامًا كما يسعى المسرح العربي – في توظيفه للكلاسيكيات – إلى مساءلة حاضره من خلال استدعاء الماضي الأسطوري.
يتضح من التحليل أنّ إعادة توظيف المتن الدرامي الغربي في السياق الإفريقي لا يقتصر على مجرد اقتطاع أو تقليد النصوص الكلاسيكية، بل يمثل عملية نقدية-إبداعية متكاملة تهدف إلى إعادة توجيه هذه النصوص لتخاطب القضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية الإفريقية. نماذج مثل "أورفيوس الأسود" و"أثينا السوداء" تقدم آليات متعددة لاستعادة الجذور الإفريقية للتراث المسرحي، وإضفاء البعد الطقسي والميتافيزيقي الغائب في الكثير من المسرحيات الغربية، مما يسمح للمسرح الإفريقي بأن يكون فضاءً للتجريب والاحتفاء بالهوية المحلية في مواجهة إرث الاستعمار الثقافي.
إن هذه النماذج تؤكد أنّ التفاعل النقدي مع الكلاسيكيات الغربية ليس بمثابة استسلام للهيمنة الثقافية، بل أداة لإثراء الثقافة الإفريقية وإعادة تعريف العلاقة بين التراث العالمي والخصوصية المحلية. ومن هنا، يمكن النظر إلى إعادة التوظيف الإبداعي للمسرح الغربي كجزء من استراتيجية أوسع لتعزيز الهوية الثقافية والإبداعية الإفريقية في العالم المعاصر، بما يتجاوز الانقسام التقليدي بين "الغرب" و"إفريقيا".
للاطلاع على كل ما تنشره ليتيراتور ريفيو ، نرجو الاشتراك في نشرتنا الإخبارية هنا!