الكتابة الإبداعية واللغة العربية

Navigation

الكتابة الإبداعية واللغة العربية

الكتابة الإبداعيّة كسر الصمت تجاوُز الخوف
Iman Humaydan
Bildunterschrift
Iman Humaydan

     بدأتُ بتعليم الكتابة الإبداعية سنوات قبل أن يعرف تلامذتي وتعرف إدارة الكلية ان بعد فترة من الزمن سيطلق عليها اسم "مادة الكتابة الإبداعية. في سانت تيفيني كوليج، الرابية،لبنان. بين 1987 و1989 قمت بتدريس مدرّسات الأطفال تقنيات كتابة القصص القصيرة للأطفال. لم أكن حينها قد أصدرت أي رواية بعد، بل كنت أكتب نصوصاً وقصصاً قصيرة وانشرها في المجلات الأدبية والصفحات الثقافية.  احسب ان تلك التجربة الأولى المبتورة وأقول المبتورة لان الكلية أقفلت لمدة طويلة في خضم الحرب الأهلية في لبنان. أحسب ان تلك التجربة رغم قصرها كانت غنية ومليئة بالإبداع. مضت سنوات قبل البدء بالتجربة الثانية التي ما تزال مستمرة حتى اليوم. عام 2007  وبعد صدور أكثر من رواية لي، بدأت تعليم الكتابة الابداعية في جامعة أيوا الاميركية ضمن "البرنامج العالمي للكتابة" والمحترف كان تحت عنوان "بين السطور".  استمرت هذه التجربة ولم تقتصر على جامعة أيوا بل شملت بضع جامعات اوروبية ادرت فيها محترفات لفترات قصيرة.  هذه التجربة المتنوعة فرضت علي تحقيق كتاب باللغة العربية يحاكي الكتابة، وهو بعنوان "كتابة الكتابة ( دار الراوي 2010 لبنان ) وهو دليل أنجزتُه تضمّن شهادات من سبعة أدباء لبنانيين عن تجاربهم في الكتابة. خلال سنوات تعليمي الكتابة الإبداعية، لم تشهد تجربتي الخاصة بشكل عام ( إلا مع بضعة طلاب) هَمّ الخروج بنص طويل.  النصوص التي اشتغل التلامذة والمشاركون على كتابتها كانت بمعظمها قصيرة. لم يكن الهدف أن يقوم المشاركون الشباب والبالغون في الصف بإنتاج رواية في نهاية السنة الدراسيّة ومن ثم نشرها. في سنواتي الأولى في تجربة التعليم قد أكون فكرت بنشر نصوصهم، لكن تجربتي التعليمية والتي أخذت تتعمّق مع الوقت، دفعتني الى الاهتمام بجوانب أخرى أوّلها الاهتمام والمراهنة على البعد الإنساني وبالتالي على تغيير ابداعي لنظرة الكاتب المبتدىء إلى نفسه والى العالم أثناء وبعد محترفات الكتابة التي يشارك بها. هذه عملية معقدة تكون فيها اللغة شاهدا على هذا التغيير ووسيلة لاظهاره. هذا هو التأثير الأول والأساسي. لا يهم إذا كان الكاتب سيصدر رواية ام لا. إنجاز نص طويل أو إنجاز رواية لا بد أن يأتي لاحقا، وتأتي الكتابة بعد سنوات من القراءة، من المناقشة ومن النقد. ينهل خلالها الكاتب المبتدئ من كنوز الادب ويصبح مستعدا الكتابة مغايرة. لا تستطيع صفوف الكتابة الإبداعية وحدها تأمين هذا الاستعداد. هو أمر داخلي بحت. ذلك الاستعداد وتلك القدرة يحتاجان إلى وقت طويل، يتمرن خلاله الطالب على القراءة الوفيرة التي تصقل ذائقته ومعرفته الأدبية. 

إيمان حميدان، ولدت في عين عنوب في لبنان، ودرست علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية في بيروت. نشرت خمس روايات وقصص قصيرة متنوعة وسيناريوهات مكتوبة، وتُرجمت جميعها إلى لغات عالمية. تتيح للنساء في رواياتها أن يكون لهن رأيهن وأن يروين قصصهن الخاصة. حصلت روايتها الرابعة "50 غراماً من الجنة" على جائزة كتارا (قطر) عام 2016. تقوم بتدريس اللغة العربية والكتابة الإبداعية في جامعات أوروبا وأمريكا الشمالية، وتعد دورة الكتابة الإبداعية التي حصلت عليها في جامعة سانت دينيس في فرنسا أول دورة تدرس باللغة العربية حول الكتابة الإبداعية. كانت حميدان عضوًا في لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية IPAF 2022. وهي أحد مؤسسي مركز القلم اللبناني، الذي ترأسته من 2015 إلى 2022، وعضو مجلس إدارة مؤسسة القلم الدولية من 2017 إلى 2023.

يرافق صف الكتابة برنامج قراءة مكثف للآداب العربية والعالمية واختيار نصوص وكلمات منها لمناقشتها في الصف. القراءة المكثفة تُغني قاموس الطالب وتشجعه على استعمال مفردات جديدة في كتابته لنصه. يأخذ المعنى طرقات جديدة ويغدو اكثر شجاعة ووضوحا. انها عملية بناء مستمر لثقة الطالب في نفسه وفي قدرته على اعادة استخدام وترتيب المفردات بصورة جديدة. انها عملية معقدة ومثيرة للاهتمامـ يرمي خلالها الطالب خوفه جانباً. نشهد أثناء ذلك تطور في الأسلوب وفي تغيير العلاقة مع اللغة بحيث يصبح للكلمات معاني مغايرة اكثر نضارة وابداعا. انها خلق صور وعوالم جديدة للغة وللنص. 

الكتابة هي وجودية كما هي فعل قائم. وهي ككل الفنون جزء منها موهبة والجزء الآخر تعلّم وتمرين. في البداية اركّز على الجزئين مع طلابي، لكن في كثير من الاوقات أجد نفسي أقوم بتعليم أصول القواعد والإملاء خاصة ان الكثير من طلابي لا يتقنون اللغة العربية اتقاناً جيداً. هذا يفتح باب النقاش واسعاً حول اللغة العربية وبرامج التعليم وسياسات الدول إن في العالم العربي أو في الدول الغربية التي تدرّس جامعاتها اللغة العربية والأدب العربي والتي تُخرّج طلاباً كل عام بشهادات عالية في الأدب العربي. لكن رغم ذلك تتم كتابة الاطروحة أو البحث بلغة البلد الغربي. 

عام ٢٠١٥ بدأت بتعليم الكتابة الإبداعية في فرنسا، وكانت المرة الأولى التي يُقام في جامعة فرنسية (باريس 8 سان دني) محترف وصف للكتابة باللغة العربية. كانت تجربة جيدة لطلاب يدرسون الادب العربي (في سنتهم الثانية والثالثة) ويحتاجون الى تقوية علاقتهم مع لغتهم الأم. فهم رغم انهم يتخصصون في الادب العربي الا ان كتابة الاطروحة وبسبب الشروط الاكاديمية تبقى باللغة الفرنسية. بأي لغة نكتب موضوع مهم لعربي يقيم في بلد أجنبي. لم اتوقع ان يتجاوب معي طلبة الجامعة بهذه السرعة حين بدأتُ باعطاء صف هو الأول في الكتابة الإبداعية باللغة العربية.  حاليا غدت مادة تعليم الكتابة الإبداعية جزءاً من المنهاج الأكاديمي للجامعة وتُعلّم كل عام. ما زلت أذكر ردود فعل الطلاب بعد الحصة الأولى: "إنها المرة الأولى التي ندرس الكتابة الأدبية باللغة العربية" قالت لي ابنة العشرين والتي تحضّر رسالة الماجستير في الأدب العربي. كان هذا غريباً بالنسبة لي. إذ لا شك أن شرط الكتابة الإبداعية كعامل تغيير هو الكتابة باللغة الأم. ولا أستطيع أن أرى الكتابة الإبداعية خارج محاولة مشروعة للخروج عن الصمت. إنها بشكل ما إعادة ولادة للإنسان ودعوة علنية الى التشكيك بكل ما هو متعارف عليه، الهدم ثم البناء من جديد.

إلّا أنّ اتقان اللغة العربية من قِبل الطلاب لا ينفي وجود مشاكل أخرى يواجهها استاذ مادة الكتابة الابداعية، إذ هي مادة تتداخل فيها مجمل العلوم الانسانية والفلسفة والسياسة وتعكس تفكير الكاتب المبتدئ ورؤيته لنفسه وللعالم. وخلال سنوات تعليمي لمادّة الكتابة الإبداعية في جامعة باريس 8 سان دني، كان مستوى الطلاب في اتقان اللغة متبايناً. طلاب حضروا تدفعهم رغبة في التعلم والاكتشاف وفي كتابة نصوص إبداعية، وطلاب أتوا ليتعلموا لكنهم يعانون من ضعف لغوي واضح، وآخرون يتقنون اللغة بشكل مقبول إلا أنهم يحمّلون نصوصهم جملا وتعابير كأنها خارجة للتو من كتب دينية بما في تلك الجمل من انعكاس معرفي. أخذ مني الأمر وقتاً كي يستوعب الطلاب أنني انتظر ان أقرا ما كتبوا هم وليس نصوص الاخرين، وأنّ عليهم أن يبتكروا كلمتهم وجملتهم وفكرتهم هم بأنفسهم، لا أن ينقلوا الجمل والتعابير من الكتب الدينية. هم بالطبع يستطيعون الاستعانة بجمل ليست لهم شرط التعامل معها بطريقة إبداعية شجاعة وذلك بتفكيك ترابطها والاستفادة منها وتوظيفها في نصهم لخلق معان جديدة ولخدمة القصة التي يكتبون.  

 ان الخضوع لنصوص لا سلطة للطلاب عليها يُفقدهم دون شك أحد شروط الكتابة الابداعية الا وهو مواجهة السائد في اللغة. اللغة هي وسيلة تعبير وتحرر، لكنها تستطيع أن تكون وسيلة قمع وقطع بين ما يشعر به الكاتب وما يقوله. تستطيع أن تتحول الى كيس ضخم من نفايات الكلام واللامعنى. ماذا علينا هنا أن نفعل وفي حالات كهذه. ماذا لو بعض الطلاب يأتون من أصول تقليدية ومتدينة ويخافون من الخوض في تجربة الانقلاب على اللغة السائدة والاستمتاع بلعبة تفكيكها وبناء لغتهم هم. هنا لا تعود مهمة أستاذ المادة تعليم الكتابة فحسب بل أكثر من ذلك. تصبح مهمة قد تقارب تحرير العقل من تبعية السائد والمهيمن في اللغة والتعبير والافكار. 

هنا أيضا افتح هلالين لنقاش ملحّ وضروري حول علاقة اللغة والدين. الدين المغلق الذي يتعامل مع اللغة كجسم ميت أو علبة مغلقة لا يقتل اللغة فحسب بل يقتل الناس وكل يوم. أفكر الآن بالشابة الجميلة الشاعرة السورية سمر صالح التي كانت من ضمن محترف الكتابة الابداعية في جامعة أيوا الأميركية والذي قمت بادارته عام 2008. سمر  كاتبة مبدعة، عادت الى مدينتها حلب، وخطفت هناك عام 2014 على يد الميليشيات الدينية، قوى الامر الواقع. منذ ذلك الوقت لم اسمع عن سمر أي شيء.

لا تغيّر صفوف او محترفات الكتابة الابداعية المشاركين أو الأدباء الجدد فحسب، بل من يدير الصف او الورشة أيضاً. انها عملية تفاعل مستمرة نتساءل فيها هل ما نقوم به هو الأصح؟ اذا كانت الرواية العربية كنوع أدبي في طور التطوّر والتغير ماذا يسعنا القول اذا عن المحترفات وانواع الكتابة فيها وهي حديثة العهد جدا مقارنة مع نشوء الرواية؟ هي فعلاً عملية مستمرة من التمرن، من التربية على الديمقراطية (تربيتنا نحن الاساتذة أولاً) وعلى توسيع مكان الابداع لآخرين جدد. هذا لا يتم إلا بالتوازي مع لجم نزعة الكاتب "المعلًم"  الى إسقاط تجربته على المبتدئين وتعليمهم كيف هي الكتابة معتقدا ان الكتابة الجيدة تشبه كتابته وانه يعرف أكثر من غيره. لا بدّ من تفادي هذا الخطأ وإلا سيغدو ما يقوم به عملاً سلطوياً لا يختلف كثيرا عن سياسات السائد التي تعلّب اللغة وتمنع أي كتابات مغايرة.  تجربة تعليم الكتابة تغدو ابداعية حين تقبل بنقد "الأنا"  والإيمان أن هناك ثمة أفكار أكثر إبداعا مما يطرحه الكاتب المحترف. مهمة الكاتب المحترف هنا مساعدة الكاتب الجديد بصقل تلك الافكار واخراجها الى الضوء والعلن.

  الكتابة الإبداعية سيرة ومرآة. لا بد من البدء بالسيرة للخروج من النفق المظلم ورؤية أنفسنا. لكن مشاكل عديدة تعترض تعليم الكتابة. إنها قبل أن تكون كيف نكتب رواية وكيف نكتب قصة، هي كيف تكتب جملة طازجة لا تُكَرِّر او تقلِّد ما كُتِب. ذات صباح وفي الصف بدأ نقاش ساخن بين طلاب وطالبات الصف حول موضوع حقوق المرأة، حول مكانتها وقوانين الأحوال الشخصية في العالم العربي. استعر النقاش اثر انتهاء إحدى التلميذات، اسمها منى،  من قراءة قصة كتَبتها ضمن موضوع السيرة والسيرة الذاتية.  تخطّت السن التقليدي للتلامذة الجامعيين إذ عادت إلى الجامعة لدراسة الادب في سن الاربعين بعد أن عقَدَت العزم على كتابة رواية سير- ذاتية بدأت بها منذ وقت ولم تنجزها. سردت منى علينا بصوت خافت، قصة زواجها وطلاقها، وزواجها مرة ثانية ثم طلاقها بسبب ان الزوج رفض كل مرة متابعتها الدراسة وممارستها اي عمل. عادت في قصتها الى سنوات طفولتها ومراهقتها وفي عودتها اكتشَفتْ ان كل مرة تشرع فيها بتحقيق حلم من أحلامها، يقف الرجل بوجهها ويمنعها. اختلفت تعليقات الطلاب أثناء النقاش. أحدهم عزا عنف الرجل الى ابتعاده عن تعاليم الدين. نقاشات حقيقية وحيّة كتلك، كانت تضعني إزاء مسؤوليات تتجاوز تعليم تقنيات الكتابة. انها مسؤولية الوقوف في وجه رؤية " توحدية" (من توحّد) للواقع والعالم أصابت الملايين في العالم العربي. 

قد لا يتمتع النص الذي قدمته الكاتبة المبتدئة بكافة الشروط التقنية للكتابة الابداعية الا انه يطرح أسئلة عميقة حول واقع المرأة في بلداننا. تلك الاسئلة تعكس روحاً نقدية ورغبة في مواجهة الواقع. ومن الصعب أن تُسمّى الكتابة بإبداعية ان افتقدت الى النقد والمواجهة. بعد انتهاء الكاتبة المبتدئة من القراءة قلت لنفسي يبدو انني نجحت الى حد ما فيما عملت من اجله: الا وهو دفعها الى التعبير دون خوف، والى كسر ذلك الحاجز بين الفكرة والورقة او بين ما يدور في الرأس والوجدان وما تكتبه على شاشة الحاسوب. قالت المشارِكة إنها المرة الأولى التي استطاعت أن تكتب قصتها. تابعت ان المواضيع التي تمّ طرحها ومناقشتها في الصف، جعتلها مستعدة للكتابة ولقراءة نصها بشجاعة أمام زملائها وهذا هو الأهم.  أثناء الكتابة عادت الى ذاكرة خاصة حسبت أنها نستها.  استطاعت ولأول مرة أن تخرج ألماً رافقها منذ وعيها لذاتها كأنثى، وأن تحكي قصة حبها ومعاقبة شقيقها لها بقص شعرها الطويل الذي تفتخر به، وبحجزها في بيت العائلة البعيد عن المدينة، والذي تقطنه العمة العانس. منى ابتدأت بالسرد ولن تتوقف. عتبة السرد الأولى كانت فصلا من رواية سير-ذاتية. 

لا أعلم للحقيقة اذا يوما ما سنرى رواية منى، في المكتبات او انها ستصبح كاتبة معروفة وتحصد الجوائز. المهم ان في قصتها تلك، أوصلت سؤالها وشكّها إلى قلب القارئ أو السامع، وهي بذلك قبضت على أولى شروط الكتابة الإبداعية المترافقة مع كسر الصمت وتجاوز الخوف وعبرهما السؤال، عبرهما محاكمة السائد ورفضه. هنا الكتابة والتعبير بلغة الأم تضع الحياة على الطاولة لأناس يقيمون في بلدان ليست ببلدانهم الام وتشجعهم على خلق مصالحة بين المكانين واللغتين. تصبح الحياة أكثر حقيقية وأقل صداماً.  إذ ان السرد لا يحكي قصة فقط، بل هو نقاش أوسع وأعمق حول الحياة والعنف والاستبداد وأحلام البشر والوحدة ( وهذا ما دار بين الطلاب بعد الاستماع الى القصة). هو بذلك اعادة صياغة رؤيتنا للعالم، للعلاقات البشرية، لعلاقة المرأة بالرجل. انها أيضاً مساحة إبداعية ملحة وضرورية للسؤال. ما دار بين الطلاب بعد قصة تلك الكاتبة المبتدئة لم ينته. بقينا لأسبوع ننافش موضوع المرأة والرجل والمجتمع العربي.  كان لا بد من مناقشة موضوع الدين كعائق امام حقوق المرأة وامام اللغة كوسيلة تعبير ديمقراطية. أسئلة حول الدين والذكورية وعلاقتهما بالمجتمع والحياة اليومية للناس طرحتها طالبات الصف والقلة القليلة من الطلاب الشبان. كان هناك حقل ألغام ساروا فيه حتى النهاية دون ان يحدث انفجارا تلو الانفجار قد يؤدي الى توقف النقاش وتعطّل السرد.

منى هي نموذج لكثير من الشابات والشبان العرب الذين يعانون من قمع يأخذ أشكالا ومعاني مختلفة. قمع يفرض نفسه على اللغة ويبترها هي الاخرى.  ارى هنا دورا كبيرا للكتابة الإبداعية المغايرة والمختلفة يجعل المشاركين يؤمنون أن ما أهملوه في داخلهم وبنوا حوله اسمنت التابو والتأتأة الفكرية، جدير أن يُقال وان يُقرأ وأن يُسمع، وإنّ كَسْر السائد وتجاوزه يحمل احتمالاته. اذاً هي رحلة شاقة، وقد يكون الجانب التقني منها أو الأسلوب هو الأسهل، وأكاد أقول الأقل أهمية ( بالنسبة لي على الأقل).

الكتابة الإبداعية بطبيعتها هي كتابة خارج القوالب، وخارج العلبة المربعة، نرى أنها تلعب دور الدافع إلى الأمام ليس فقط في إنتاج أدبي إبداعي بل معها تتغير النظرة إلى الذات والى الخارج. وهذا وفق اعتقادي أهم انجاز يمكن لمحترفات الكتابة الإبداعية تحقيقه وإلا لا معنى للكتابة ولا معنى للتضحية بأشجار تُقتل وتُصنّع وتتحوّل فيما بعد إلى ورق لروايات ليس فيها ثمّة ما يصل الى القلب والى الوجدان، ليس فيها سؤال.  تحفيز الشاب على الكتابة الإبداعية هو دفع لطرح الاسئلة حول ما يبدو بديهيا ولا يُناقش.  هي استعادة السؤال وطرحه ورؤية الواقع بعين جديدة فيها من الشك والنقد قدر ما فيها من الإبداع. 

 أتساءل أحيانا أثناء النقاش مع طلابي ماذا لو قُدِّر للذين كانوا يعيشون على خطوط تماس الحروب الأهلية أو تحت الاحتلال، او الذين هُجّروا ويُهجّرون الآن، او الذين فقدوا من أحبوا، ويشهدون الموت كل لحظة، أو الذين عاشوا ويعيشون التروما، ماذا لو قُدِّر لهم أن يكتبوا؟ ماذا لو أُتيحت لهم فرصة كتابة ما رأوه وعاشوه؟ او استعير من المفكر اللبناني الدكتور احمد بيضون عنوان كتابه واقول "ما علموه وذاقوه"، حينها كيف ستكون تلك الكتابة وكيف ستؤثر عليهم وكيف سيرون العالم بعد ذلك؟ ألن يغدو العالم أكثر سلاماً وانفتاحاً من زمننا الراهن؟