خُرُوجٌ

Navigation

خُرُوجٌ

مسقط كما تراها عينا كاتبة
Bushra Khalfan
Bildunterschrift
Bushra Khalfan

بشرى خلفان  قاصة وروائية وشاعرة وكاتبة مقال وناشطة ثقافية من سلطنة عمان.
صدر لها ٤ مجموعات قصصية و٣ روايات بالإضافة الى عدة نصوص أدبية حرة.
حازت روايتها الثانية  دلشاد على جائزة كتارا عام ٢٠٢٢ بعد أن دخلت في العام نفسه ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية. صدرت هذه القصة عام ٢٠٢٠ عن دار مسعى ضمن مجموعة قصصية بعنوان
حيث لم يعرفني أحد.

سآخذُكَ اللَّيلةَ إلى مسقط. لا: ليستْ مسقطَ التي عَرَفْتَ منها- كأيِّ غريبٍ- سوقَ الظَّلامِ في مطرحَ، وَتَزَاحُمَ المجمَّعاتِ في القُرْمِ، وشارعَ الوزاراتِ الذي تَذْرَعُهُ مرَّتين يوميًّا إلى مكتبِكَ في الطَّابقِ الثَّالثِ في ذلك المبنى الذي شُوِّهَ على شَكْلِ قلعةٍ؛ كحالِ كُلِّ المِعْمَارِ الذي تَقَعُ عليه عيناكَ وكأنَّه تناسخٌ أزليٌّ لصورةٍ واحدةٍ لَمْ يَعْرِفِ العمانيُّون غيرَها.
لا، سآخذُكَ اللَّيلةَ إلى مسقطَ التي تَخُصُّني، ولَنْ أقولَ تَخُصُّني وحدي؛ فلقد تقاسمتُها مع الآخرينَ الذين عرفوها ورسموا بشخوصِهم  جزءاً من ذاكرتها وذاكرتي. نعم، سآخذُكَ لنتتبَّعَ خطواتي الأُولى في المكانِ الذي حوَّله البُعْدُ المكانيُّ والزَّمَانيُّ وَلَََعَاً مِنْ نوعٍ خاصٍّ، وَلَعَاً يتعلَّقُ دائمًا بالأماكنِ المهجورةِ والنَّائيةِ التي تُشَكِّلُ- فيما تشكِّل- خلفيَّةً بيضاءَ لِتَشَكُّلِ الكائنِ الذي أصبح أنا الآنَ، دونَ إنكارٍ لفضلِ أماكنَ أُخرى لكنَّها تظلُّ دونَ ذلك حميميَّةً وبهاءً في الذَّاكرة.
الآنَ عليكَ أنْ تَرْبِطَ حِزَامَ الأمانِ؛ لأنَّنا سننطلقُ بسيارتي المتآكلةِ بِفِعْلِ الحرارةِ والرُّطوبةِ والزَّمنِ في رِحْلَةٍ في المكانِ والذَّاكرةِ، لكنْ عليك أنْ تتذكَّرَ أنَّ التي تَجْلِسُ إلى جانبِكَ الآنَ ليستْ أكثرَ مِنْ مُغَامِرَةٍ تُحَاوِلُ تَتَبُّعَ خيطِ الألمِ الذي نَسَجَ حياتََها كلَّها حول فكرة.
سآخذُكَ اللَّيلةَ إلى مسقطَ، وَلْنَدَّعِ، لِبُرْهَةٍ، أنَّنا نشاهدُ شريطاً سينمائيًّا أُعَلِّقُ عليه أنا بما رَسُبَ في الذَّاكرةِ، وَتُطَالِعُهُ أنتَ باهتمامِ الغريبِ الذي يمر عادةً على وجهِ المدينةِ الأكثرِ يُسْرًا دونْ أنْ يكلِّفَ نفسَه عناءَ النَّبْشِ في الزَّوايا المُغْبَرَّةِ والحواري الضَّيِّقةِ التي شكَّلتْ مصائرَ الكثيرينَ الذين يقبعون اليومَ متوارين في ظِلالِ الزَّمنِ السَّعيد.
وعليَّ أيُّها الصَّديق أنْ أعترفَ لَكَ بأنَّكَ، ولمدَّةِ ساعةٍ، سَتَسْكُنُ ذاكرةً لكائنٍ مُنْقَرِضٍ يُحاولُ أنْ يَدْفَعَ زَوَالَََُه بتمائمِ الحنينِ إلى طفولةِ المكانِ، الذي شكَّل في تَغَيُّرِهِ الفاضحِ شهادةً آثمةً على محاولاتِ الإبادةِ التي تُمَارَسُ على مَنَابِتِ الأشياءِ الجميلة.
ارْبِطَ حِزَامَ الأمانِ وتوكَّلْ على الذَّاكرةِ التي سأبذلُها بين يديكَ دون تَحَفُّظٍ، وَلْنَنْطَلِقْ. 
سندخلُ مَسْقَطََ مِنْ بوَّابتِها الغربيَّةِ، بَعْدَ أنْ نمرَّ على كورنيشِ مطرحَ الذي حلَّ محلَّ الدَّربِ الضَّيِّقةِ أسفلَ الجبلِ مباشرةً. نعم، هناك إلى يمينكَ؛ انْظُرْ إلى تلك الدَّرْبِ النَّائمةِ في الظَّلامِ مُتَوَارِيَةً خَلْفَ النَّخيلِ والمساحةِ الخضراء. نعم، هناك بالضَّبط، تلك الدَّربُ كانتْ دَرْبَ طفولتي التي خرجتُ منها إلى مطرحَ وما يقع وراءها، بعد أنْ تدحرجتُ مِنْ أعلى عَقَبَةِ رِيَام التي سنصعدُها بعد قليلٍ، متجاهلين الطَّريقَ الملتفَّ الذي  مِنَ المُفْتَرَضِ أنْ نستخدمَه للدُّخولِ عبر البوَّابة الزَّائفةِ التي صَنَعَهَا تَمَلُّقُ التَّاريخِ والعَجْزُ عَنِ الابتكار.
سنصعدُ عَقَبَةَ ريام عبر الحارةِ القديمةِ التي كان يَقطُنُها البحَّارةُ والعبيدُ، والتي أصبحتِ الآنَ منفذاً شرقيًّا  لهذه الحديقةِ التي على يسارِكَ، والتي تعرفُها بالطَّبع بتلك المِبْخَرَةِ القبيحةِ التي لا يَعرفُ أحدٌ سِرَّ انتصابِها على تلك التَّلَّة.
نعم، سنصعدُ الآنَ، وإنْ كنتَ تخافُ مِنَ الظُّلمة، أو إنْ سَكَنَتْكَ حكاياتُ السَّحَرَةِ الطَّائرينَ الذين يشوون الأطفالَ على أسياخٍ مِنَ حديدِ في السّيوح المُتواريةِ وقيعانِ الوديانِ السَّحيقةِ، وإنْ كُنْتَ تخافُ مِنَ الأماكنِ المسكونةِ بأنينِ المغايبة فعليكَ أنْ لا تنظرَ إلى الأسفلِ أبداً. أنظرْ إلى الأمام؛ سيارتي تَحْتَمِلُ هذا المَيْلَ، سنصعدُ ببطءٍ، لكنْ بثباتٍ، فأنا متعوِّدةٌ على هذه الدَّربِ، وأعرفُها كما أعرفُ تعرُّجاتِ الرُّوحِ المذبوحةِ من فَرْطِ التكيُّفِ مع الجديدِ السَّريعِ في تغيُّرِه. 
سنصعدُ، نعم، أرفعُ صوتَ الموسيقى قليلاً، لا مانعَ لديَّ أبداً؛ قليلٌ مِنَ الموسيقى في هدأةِ اللَّيلِ لَنْ تضُرَّنَا في شيءٍ، وَلْنَعْتَبِرْهَا موسيقى احتفائيَّةً بالمشهدِ الذي سنطلُّ عليه بعد قليل.
نعم، هذه مسقطُ الآنَ رابضةٌ في هدوئها اللَّيليِّ، وحيدةٌ وقانعةٌ بالأنوارِ الخافتةِ التي تشي بالخواءِ الذي سَكَنَ خَلْفَ جدرانِها المهجورة. وَلأكُنْ أكثرَ دِقَّةً: فهي ليستْ مهجورةً تماماً لكنَّها في الطَّريقِ لئن تصبحَ كذلك. أنظر هناك أقصى الشَّرقِ، لا ليس هناك حيث الظُّلمةُ الواشيةُ بالجبالِ بَلْ إلى اليمينِ قليلاً حيث الأضواءُ المتفرِّقةُ التي تَلْمَعُ في الأفقِ الأسود. نعم، هناك بالضَّبط، تلك الأضواءُ يا صديقي هي للرَّافعاتِ التي تبني القصورَ الجديدةَ التي ستحتلُّ مسقطَ عمَّا قريبٍ؛ كي تصبحَ المدينةُ الآمنةُ أكثرَ أمناً وأكثرَ نأياً عن ذاكرةِ الكائنِ الذي ولد فيها واستوطنَها، ثم خرج منها إلى الامتدادِ البعيد للزَّمان في المكان.
سنتدحرجُ الآنَ إلى الأسفلِ، لنتوه قليلاً في حاراتِ مسقطََ الغافيةِ على الأمنياتِ. سآخذُكَ إلى حارتِنا الصَّغيرةِ الرَّاقدةِ بين حوشِ البانيان والوادي الصَّغيرِ، هناك حيث عرفتُ لَذَّةَ الرَّكضِ حافيةً في الطُّرقاتِ المتربةِ، وكوَّنتُ أولى صداقاتي مع الشِّياهِ على المنزلقِ الصَّخريِّ شمالَ الحارةِ الذي عَلَّمتُ صخورَه على ساقيَّ ويديَّ وروحي.
هذه الجبالُ لا تتغيَّر، قد لا تراها أنتَ بوضوحٍ في الظُّلمة الآنَ، لكنَّني أراها واضحةً جدًّا، أعرفُ تعرُّجاتِ صخورِها وانكساراتِها، أعرفُ فجواتِها التي كُنْتُ أَحْشُرُ قدميَّ الصغيرتين فيها متلمِّسةً بِحَذَرٍ طريقَ الصُّعودِ إلى الأعلى. أعرف أماكنَ الكهوفِ التي كانتْ كفيلةً بإثارةِ خيالِ الطِّفلةِ فيَّ، حتى إنَّني أستطيعُ أنْ أجزمَ- وأنا في هذه الظُّلمةِ- بالمكانِ الذي خبَّأتُ فيه الرِّيالَ الذي حصلتُ عليه ذاتَ عيدٍ من عمِّي مبارك, والذي أكلتْه الشِّياهُ بلا مبالاةٍ بالحزنِ الذي أورثتْني إيَّاه فعلتُهنَّ تلك, والذي جعلني أعزفُ عن الذَّهابِ للَّعبِ معهنَّ لأيامٍ عديدةٍ بعد ذلك.
هل ترى هذه الأبنيةَ؟ نعم هذه التي على يميني؛ هنا كان بيتُ جدِّي لأُمِّي، كان بيتاً كبيراً عندما أُزيل، بيتاً كبيراً وجميلاً ضمَّ الكثيرَ من الخطواتِ الصَّغيرةِ والحيواناتِ في وقتٍ ما، وبيع لاحقاً بثمنٍ كان كافياً لشراءِ بيت بعيدٍ في مكانٍ لا جيران لنا فيه.
وهنا كانتِ الباغ, نعم خَلْفَ بيتِ جدِّي مباشرة.، والباغ تعني الحديقةَ أو المزرعةَ باللُّغةِ الهنديَّةِ، تُنْطَقُ "بغيشة"، لكنَّنا- وكما تعوَّدنا أنْ نأخذَ بعضَ أشيائِنا عن الهنودِ أو آخرين غيرهم- نحرِّفها و ننطقُها على هوانا، ثم نألفها لتصبح من مفرداتِنا اليوميَّة.
نعم، هنا كان الباغ الذي عَمِلَ فيه جدِّي ، والذي تعوَّدتُ أنْ أسطو والصِّبيةُ على ثمارِه. أترى هذا الجرحَ أعلى جبهتي؟ حَفَرَتْهُ شجرةُ اللّمبا التي كُنْتُ أتسلَّقُها لسرقةِ ثمارِها الخضراءَ الحامضةِ، فاهتزَّتْ بي ورمتْني إلى الأسفلِ كي يتلقَّفَني التُّرابُ والدَّمُ السَّائلُ مِنْ جُرحي الذي أصبحَ نَدْبَةً أتلمَّسُها كلَّما أُحرجتُ من خطأٍ أرتكبُه. 
سنخرجُ الآنَ مِنَ حارتي، لكنْ، قبل أنْ نفعلَ ذلك، انْظُرْ يسارَ المنعطفِ الذي نسلُكُهُ، نعم هناك؛ هذه حارةُ الزّدجال. 
لعبتُ في حارةِ الزّدجال هذه، وفي أزقَّتها الضَّيِّقةِ مختبئةً في أثوابِ البلوشيَّاتِ الزَّاهيةِ والمشغولةِ بالأغصانِ الملتفَّةِ الصَّغيرةِ، والورداتِ الحائراتِ على أطرافِ الأَرْدانِ والحواشي، والمستطيلِ الذي ينتهي بمثلَّثٍ حادٍّ إلى الأعلى؛ حيث تخبئُ فيه البلوشيَّةُ عادةً الحلوى والنقودَ وأشياءَ أخرى.
بعد أنْ نتركَ هذا المنعطفَ سيطلُّ علينا بيتُ "ما سلامه" معلَّقاً بين سفحِ الجبلِ والدَّربِ، مرفوعاً على قواعدَ من الحجارة؛ كان بابُه أزرقَ، والبيتُ البسيطُ في بنائِه لا يميِّزه شيءٌ سوى غرفةِ صاحبةِ المنزلِ أو صاحبةِ الزَّارِ المزيَّنةِ بكلِّ ما قد يخطر على البالِ من ألوانٍ وأقمشةٍ وأثاث. "ما سلامه" التي سمعنا النِّساءَ ينقلنَ حكاياتِها بخجلٍ أوَّلَ الأمرِ ثُمَّ عندما كَبُرْنَا صرنا نسمعُها بوضوح.
    تلك الحكاياتُ التي يُروى فيها أنَّ صاحبةَ الدَّارِ معشوقةٌ لجنِّيٍّ تتزيَّنُ له وتنقشُ الحنَّاءَ على كفَّيْها وقدميْها ليدخلَ عليها ويُعْرِسَ بها مدَّةَ أربعين يوماً. وتقول النِّساءُ الموثوقُ بهنَّ: إنَّها إنْ لم تستعدَّ له بالحِنَّاءِ، والياسِ، وماءِ الوردِ الجبليِّ، والصَّندلِ، والمحلبِ، فإنَّه ينتقمُ منها وقد يقتلُها في آخرِ المطاف.
العجوزُ التي لا أذكُرها، إلا كذلك، ماتتْ آخرَ المطافِ مُختنقةً بدخانِ البخورِ ورَفْسَاتِ الجانِ في بطنِها، بعد أنِ استقرَّ في أحشائِها وَرَمٌ بحجمِ بيضةِ النَّعامةِ، جعلها تَنْزِفُ دماً لأشهرٍ طويلةٍ، ثُمَّ، وفي ليلتِها الأخيرةِ، طلبتْ مِنَ النِّساءِ القائماتِ على خدمتِها صَدَقَةً: في أغلبِ الظَّنِّ أنْ يزيِّنَّها، وأنْ ينقشن الحِنَّاءَ على كفَّيها، وأنْ يُلْبِسْنَهَا ثوبَها الأخضرَ الذي استقبلتْ به الزَّارَ في ليلةِ زفافِهما الأولى. قالتْ لِخَلُّوف التي كانت تبكي إلى جانبِها: "عيب يا خلُّوف يشوفني كذا لو جا ورادّنّي اللّيلة، عيب".
سنخرجُ الآنَ من الحدودِ البعيدةِ لحارتي، ستستقبلُنا مسقطُ التي لا تكفُّ عن التمدُّدِ صوبَ البحر ولا أكفُّ أنا أيضاً عن التمدُّدِ فيها؛ فالحارة التي وُلِدْتُ فيها وسكنتْها خطواتي في الطُّفولةِ المبكِّرةِ، ثُمَّ عدتُ إليها بخطواتٍ أقصرَ إقامةً بعد أنْ تركتُها وبدأتُ بالبحثِ عن أرصفةٍ جديدةٍ أوزِّعُ عليها الذِّكرياتِ والغيابَ, لم تحتضنِّي طويلاً بَلْ سرعان ما ألقتْ بي إلى خارجِها، إلى مكانٍ غريبٍ يَفْصِلُهُ عن حارتي وباقي الحواريِ الأخرى سورٌ عالٍ له عِدَّةُ بوَّاباتٍ، وعند بوَّاباتِه يقفُ حرسٌ يحملون بنادقَ قديمةً يستخدمونها لهشِّ النَّاسِ أحياناً ولإخافتِهم معظمَ الأحيان.
    داخلَ ذلك السُّورِ بدأتِ الغربةُ الأولى، أو ربَّما كانتْ هي أوَّلَ الاغترابِ الذي أخذني بعيداً عن مسقطَ  وعنِّي. داخلَ تلك الأسوارِ تعرَّفتُ إلى أُناسٍ جددٍ لَمْ أَعُدْ أدعوهم بصفاتِ القرابةِ؛ فمرزوقُ ليس العَمَّ مرزوق، ونعيمة ليستْ خالوه نعيمة؛ هما مرزوق ونعيمة، ولا أدري: هل انتفاءُ صفةِ القرابةِ جاء مع انتفاءِ التَّشابهِ اللَّونيِّ بيننا أم للبعد المكانيِّ عن الحارةِ التي تَعُجُّ بالخالاتِ والأعمامِ والجدودِ سواء اقتربوا من الجذرِ السَّابع للجدِّ أم ابتعدوا عنه؟
داخلَ ذلك السُّورِ، الذي ضَمَّ خليطاً عجيباً مِنَ البشر؛ِ مِنْ  تجَّارِ البانيان والغرباءِ والنِّساءِ القادماتِ من أقصى جنوبِ الخارطةِ، اللاتي يَلْبَسْنَ أثواباً ذاتَ ذيولٍ طويلةٍ تَكْنُسُ أرضيَّاتِ بيوتهنَّ المفروشةِ بالسَّجادِ الأحمرِ، ويزيِّنَّ وجوهَهُنَّ بصِبغةٍ بيضاءَ تذكِّر بالنُّورة التي تُصبغُ بها بيوتُ مسقطَ اتِّقاءً لِوَهَجِ الشَّمسِ. كما ضَمَ إلى جانب ذلك أيضاً، بيوتاً غريبةً متباينةً في الارتفاعِ  وفي الدُّنُوِّ من بعضِها بعضاً، وفي مكانتِها من حيث قربِها من القصرِ وبعدُها عنه.
داخلَ ذلك السُّوْرِ- الذي كان يَفْصِلُ مسقطَ  عن نفسِها، ويدنيها من البحرِ، محتفظاً بالشَّواطئ في قبضةِ الميراني والجلالي، مُحرَّمةً على الأطفال والصيَّادين الذين وجدوا في شواطئَ أبعدَ قليلاً رزقَهم اليوميَّ وسَمَكاً للغداء- داخلَ ذلك السُّورِ بدأتِ الكوابيسُ في مخادنةِ الطِّفلةِ، وبدأتِ الطِّفلةُ أيضاً في محاولاتِها الأولى للهربِ، الهربِ الذي  قادها إلى اكتشافِ أزقَّةِ مسقطَ القديمةَ وحواريها التي كانتْ تُعيدُ تشكيلَ كوابيسِها بين نُبَاحِ الكلابِ الضَّالةِ وأطيافِ النِّساءِ اللاتي كنَّ يَرْشِفْنَ الدُّخانَ من قَصَبَاِت الجدو الطويلةِ، والرِّجالِ الغرباءِ والأطفالِ الذين يقذفونَها بالحجارة.
لنْ آخذكَ اللَّيلةَ إلى مسقطَ الأُخرى،  سأنجو بِكَ وبي مِنْ تلك الذِّكرى البائسةِ، سَأَخْرُجُ بِكَ بسرعةٍ مِنْ هنا، على أنْ نعودَ لنكملَ الحكايةَ في ليلةٍ أخرى.
الآنَ أستميحكَ عذراً لأنَّني سأدخلُ في الصَّمْتِ؛ فمسقطُ التي أدخُلُها كُلَّ ليلةٍ، بهذه الذَّاكرةِ المزدحمةِ بالصُّورِ 
والتَّخيُّلاتِ، لا أستطيعُ أنْ أخرجَ منها إلا بالصَّمْتِ وحدِه.