أدين الليل وكلاب صيده

I
Colección Carta de RutaRonny Ramírez | Condeno la noche y sus perros de caza | Colección Carta de Ruta | 72 páginas | 400 DOP
أدين الليل وكلاب صيده. ثلاثة أجزاء، ثلاثة كتب. ثلاثة شعراء مناقضون أم مكملون لبعضهم البعض؟ لنبدأ بالعنوان الرئيسي: أدين. الليل. كلابهم. الصيد. من هذا العنوان، نفترض أننا سنجد في العمل الأول لروني راميريز إدانات لليل لا يجب أن يكون الليل الذي نعرفه، وكلاب صيده لا يجب أن تكون كلاب الصيد التي نعرفها أيضاً. لكن، على الرغم من أن العنوان يفرض علينا ”أنا“ شعرية تأتي لتصفية الحسابات، إلا أن الشاعر يربكنا على الفور بالعنوان الفرعي الأول: أحلام من مقصورتي. ونسأل أنفسنا: بماذا يحلم الشاعر الذي يدين الليل وكلاب صيده من مقصورته؟ هنا، في هذا الجزء الأول، المكوّن من عشر قصائد، نلمس أولى محاولات الخداع، ثنائية في عقل الشاعر أو الذات الشاعرة؟
في القصيدة الأولى، ”ذكرى سنوية"
الأبله الآلي في المقصورة وقميص وجدول زمني ...
قطعة قابلة للاستهلاك من معدات عامة، ورقة كربون.
في رأسك لا يرن سوى شائعة احتراق النقود...
وأنت تتمتم بتعويذة محرك الدمى...
نرى شاعراً غاضباً ومحبطاً يستخدم ضمير المخاطب كسوط للوم والجلد الذاتي، في سلسلة من التوبيخات القاسية وغير المتعاطفة مع نفسه، ثم يختم القصيدة بندم متخاذل:
...أحيانًا أود أن أضيع في صفحات
من رحلة بين السطور...
لأكتشف حقيقة كامنة وفريدة
في عيني زوجتي
لكن أمام تعب اسبوعينلا يعود الجمال مهماً
والعزاء الذي يقدمه الشاعر هو الاستسلام. وهو الذي يُظهر القُرحة ثم يغطيها حتى تسوءَ ولا تندمل. وفي النهاية ”عليك أن ترعى شائعة احتراق المال، لتكسب مكانتك“. انه يفضل التضحية بجمال عيني زوجته مقابل الاسبوعين والتعب. رجل عصري في النهاية عبد للعمل والمال. هكذا، يدعونا الشاعر إلى الجبن، إلى قبول نظام فاسد حتى العظم، ما دام أجر كل اسبوعين ينقذنا ويبقي سلاسل العبودية نظيفة.
في القصيدة الثانية، يتواصل العتاب مصحوباً بكآبة باهنة
لا دموع ترعد
بهذا الثقل على الأرض ...
أفتح عيني، وأرى فوقي يدور
فكّا العالم الأسوَدان
أما القصيدة الثالثة فكلها شفقة على الذات. يتحدث في البداية عن بؤسه الحالي كموظف مكتبي، ثم يتذكر الوقت الذي قضاه في منزل والدته كذريعة لتبرير بقائه في الوحل.
... وبكيتُ من الغيظِ ...
... وأعرف رعب الفجر كطفيلي.
ينتقل الشاعر من كونه طفيليًا في بيت أمه إلى طفيلي آخر في المكتب. يضحي بحريته من أجل قطعة خبز:
... وأكرر كم أنا ممتنّ لِحقي في أن أكون قادرًا على تناول الطعام.
كيف يمكن تسميته حقًا في حين أن هذا الحق بالذات منتهك؟ هل هو تهكّم وسخرية؟
روني راميريز (الجمهورية الدومينيكية، 1994). شاعر وكاتب مقالات وراوٍ. حاصل على شهادة في الأدب من جامعة سانتو دومينغو المستقلة (UASD). نشر مجموعة شعرية بعنوان ”كوندينو لا نوشيه y sus perros de caza“ (لونا إنسومني إديتوريس، جمهورية الدومينيكان، 2024)، و”باركي سوليتاريو“ (إديتوريال ”لا شيفورنيا“، السلفادور، 2025). يكتب عمودًا ثقافيًا في صحيفة ”آسينتو“، كما نشر مقالات في وسائل الإعلام الدومينيكية ”ليستين دياريو“ و”هوي“ و”دياريو ليبري“، ومقالات وقصائد في مجلات وطنية ودولية. في عام 2023، اختارته اليونسكو للمشاركة في دورات في الأدب والنشر في هافانا، كوبا. يشارك بانتظام في الأنشطة الأدبية في المعرض الدولي للكتاب والمركز الثقافي الإسباني في سانتو دومينغو والمركز الثقافي في بانريسيرفاس. وقد فاز بجوائز وتنويهات في مسابقات مثل جائزة بيدرو بيكس للقصة القصيرة للشباب لعام 2020، وجائزة ماكس هنريكيس أورينيا للمقال الشاب 2021 (معرض الكتاب الدولي في سانتو دومينغو)؛ والمسابقة الدولية للقصة القصيرة 2021 (كازا دي تياترو)؛ ومسابقة المراجعة الأولى لأدب أمريكا اللاتينية اليوم (LALT) 2023.
إنه يلعن الضجر من اضطراره إلى ابتلاع كل حلم من أحلامه، ولكنه في الوقت نفسه يبتلع قذارة النظام بهدوء وانقياد وبساطة عامل مصنع عنيد. حتى الآن، يمكننا أن نستنتج أن هذه الإدانة التي يقترحها الشاعر في الديوان، ليست أكثر من ألم ورثاء للذات وصمود نتن، تزينه هذه الأبيات الجميلة، محققة كثافة عالية من المعنى بمورد رصين ومضبوط، ولكن دون أثر للإدانة، أم أنها إدانة ذاتية؟ طبعاً كلاب الصيد تظهر ضمنياً تحت ضمير الجمع الغائب:
يخبرونني أن العمل نعمة....
يقولون لي ذلك كما لو كانوا يناولونني السكين
لتمزيق الجلد...
القصيدة الرابعة، ”رفاق“، تنفصل قليلاً وتبدأ ”الأنا“ الشعرية بالإشارة بشكل أكثر وضوحاً إلى شيء قد يكون كلاب الصيد تلك، لكن التعالي الذي تفعل به ذلك يفتقر إلى التصميم الذي يتسم به عنوان الكتاب.
بين القهوة ويوم الراتب
نحتفل بحسابات الحياة واخفاقاتها.
وفجأة ودون سابق إنذار ألاحظ أنكم تستحوذون على كل ساعتي تقريبًا
ونبدأ -أحيانًا- في الوثوق
بأحلام عذبة ومفاجئة وممتعة على نحو لا يصدق.
...
لكني أعلم كما في عرض البحر
انه في ضجيج المكتب
لن يهم الدمع او الضحك شيئاً
عندما نُدفَع إلى عين الإعصار.
كلٌّ سينظر إِلى شاطئه
ولن يعود لمن يصرخ فوق هدير الأمواج.
يشير الشاعر إلى خيانة الرفاق. إنها قصيدة جميلة، مثل القصائد الأخرى، لكنها متفوقة. إنها تذكّرنا بقصيدة ”أميستاد a lo largo“ لـ خايمي جيل دي بيدما: الإيقاع، البناء، الجماليات، يفقد الذات الشعرية جبنها: لا تدين بل تنفر، ولكن فقط في مواجهة الرفاق. إذا كان الرفاق جزءًا من كلاب الصيد، فأين الليل؟ لقد حدسنا ذلك في القصيدة الأولى تحت عنوان ”محرك الدمى“: وتغمغم تعويذة محرك الدمى... ومرة أخرى في قصيدة أحلم ببيت
آمل أن يبتسم لي البنك مرة أخرى
ويترك حُزمته من الجرذان
وللبنك هنا وظيفتان: الأولى واضحة في البيت الذي يليه، ويمكن للمرء أن يستبدل حزمة الجرذان بكلاب الصيد، والثانية: وظيفة المنقذ، وتصبح الذات الشاعرة متسولة تنتظر من البنك أن يقدم لها خدمات رغم أنها تعلم أنه سيسلبها حتى آخر قطرة. ورغم أن استياء الذات الشاعرة وغضبها من النظام الرأسمالي واضح، إلا أن الشاعر لا ينتقده. فهو يفضل البقاء في دور الضحية، ويؤكد ذلك في البيتين الأخيرين:
يجب أن أوقع على عهد الموت وأبتسم
لأن منزلاً سيكون أخيراً باسمي.
كان بامكان الشاعر ان يضع هذين السطرين بين علامات استفهام، أو حتى أن يقول " لكي يكون لي منزل" لكنه بدل ان يتساءل ما عليه فعله، يصرّح بما سيقوم به فعلاًلان النتيجة المرجوة، اي المنزل، ستتحقق.
في هذا الجزء الأول من الكتاب، إذا اعتقدنا أن الـ”أنا“ الشعرية هي المؤلف نفسه الذي يحدثنا عن سوء حظه، فإننا لا نرى شاعرًا يدين النظام أو ينتقده بقوة، بل نرى شاعرًا يبكي هذا السوء، ويقبله ويعترف به ويساوم عليه. ان انتصاره الشعري لا يقوم على محاولة تغيير النظام، بل على التذمّر لأن التذمر
في النهاية تخفف من الألم. وهكذا يضيّع الشاعر أكداساً من الورق التي كلفت الأشجار الكثير.فقط ليتذمر من ما لا يريد مقاومته.
ولكن... ماذا لو فصلنا المؤلف عن الـ”أنا“ الشعرية؟ ماذا لو اعتقدنا للحظة أن الصوت الشعري في الجزء الأول من الكتاب هو صوت المجتمع الدومينيكي، صوت الشباب الدومينيكي الذي يخفي غضبه وخيبة أمله في زجاجات الجعة في عطلة نهاية الأسبوع، ويتقيأها في أحضان محلل نفسي ويلتزم الصمت، صامداً ومهادناً ومساوماً، دون أي وعي نقدي لنظام الحكم في السلطة...؟ ماذا لو كان هدف الشاعر أن يضع نفسه في مكان مواطنيه ويعكس شخصية جيل لا مبالٍ، انعكاساً لمجتمع يعاني من اللامبالاة؟ لأن طريقة الـ”أنا“ الشعرية هذه في تشويه الواقع اليومي للكشف عن اغترابه، وروتين العمل المأجور المجرد من الإنسانية - وهو واقع ملموس لآلاف الناس في منطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية - ليست مجانية. يمكن قراءة هذا الـ”أنا“ الشعري كصوت جماعي، رمز للمواطن المحاصر. لن يكون مجرد راوٍ، بل ضمير يمزقه الروتين. إنه يعرف أنه محاصر، ويشكك في وجوده، ويدرك أنه مغترب، ولكنه يحلم أيضاً: أحياناً أود أن أضيع نفسي في صفحات رحلة بين السطور... أحلم بمنزل... في أكثرها مرارة، نشعر بأثر ماريو بينيديتي، بل بلمسة كافكاوية في الإشارة إلى الحياة كقطعة بيروقراطية يمكن التلاعب بها. تنقل القصائد غربة العمل والروتين وثقل النظام الاقتصادي وفقدان معنى الحياة الشخصية في مواجهة متطلبات العمل.
تؤكد المفارقة الكامنة في القصائد هذه النية لدى الشاعر، في قصيدة Aniversario، ( ذكرى سنوية) على سبيل المثال، في قصيدة Sueño con una casa، وربما هنا فقط، في هذه القصيدة، يكمن التناقض الذي شككنا فيه أعلاه، في حقيقة أن الأغلبية التي ينوي الشاعر أن يحمل صوتها لا يتاح لها رفاهية الحلم بمنزل يمكن أن تعلق فيه القمر/ مثل جورب عيد الميلاد. وإلا فإن رسالة الشطر الأول واضحة: أن تعمل لا أن تعيش، وأن تعيش هكذا هي واحدة من الموتات الكثيرة التي تصيب معذبي الأرض.ذلك أن الإرهاق والمال والبقاء على قيد الحياة، كل هذا يدفع بعيداً الجمال والحب والحقيقة. من هذا المنظور، يمكن وصف روني راميريز بأنه وعد مهم لحاضر ومستقبل الشعر الدومينيكي، وهو قلم قوي يعرف كيف يلتقط صورة المجتمع بكل وضوح.
II
وإذا كان هناك في الجزء الأول من الكتاب ضمير المتكلم الباكي الذي يلعب دور الضحية، وضمير المتكلم الذي يلوم نفسه، ويعاقب نفسه، فإن الشاعر في الجزء الثاني يخلع هذا الرداء ويرتدي ثوب الغائب، ويتحول إلى قاضٍ، بعصا تشير وتندد وتصدر الأحكام. تغيّر الـ ”أنا“ الشعرية جلدها، بلغة رمزية مشفّرة ورمزية تقترب من الباروكية في أسلوبها المثقل والمعقّد والمفتعل، وفي بحثها عن العاطفة والمتعة الجمالية المزخرفة والمبالغة في الشخصيات البلاغية، مع كثافة انفعالية محسوبة ولكن ثابتة في النبرة. يلعب شخص ثالث دور محركي الدمى الذين يخلطون المصائر تارة، ودور المجتمع نفسه المتواطئ والمذنب تارة أخرى، وأخيراً دور الشاعر المتضامن والقاضي والمتهم. هذا الكتاب ليس كتاباً للقراء الذين يبحثون عن الأدب السهل، ربما من هنا يأتي عنوان مقال جوردان هيرنانديز: ”Condeno la noche y sus perros de caza, un gran libro que no me gusta“ (أدين الليل وكلاب صيده، كتاب عظيم لا أحبه).
من بين النصوص الاثني عشر، لا يظهر ضمير المتكلم الا في قصيدتين فقط، أحداهما هي”حلقة او سلسلة“ ( eslabón )، والتي تبدو لي اشبه ببطاقة هوية شخصية للشاعر نفسه.
في هذا الجزء الثاني، يبدأ الليل وكلاب صيده في الظهور بشكل أوضح. في قصيدة "بورتريه"على سبيل المثال، يتجلى الليل في هيئة الاسرة المعاصرة:
الأب والأم مساهمان
بالكاد يتشاركان بالإنترنت...
سيموتان
وهما يعتقدان انهما عاشا كأسرة
ثم، في قصيدة ” ظلال المنتزه الوحيد" (لاس سومبراس ديل باركيه سوليتاريو) وهي قصيدة متكررة ومترهلة، وكان ينبغي أن تبدأ في السطر الثالث عشر: Aquí quedó varada/ la risa de un niño que nunca volvió a casa؛ وأن يكون المقطع الأول هو النهاية، لأن المرء عندما يقرأ البداية: في ظروف أخرى ... حتى البيت فيه شائعة التصوف والموت، وهي نفس الفكرة التي تكررت في المقطع الأخير، بل هو نفس المقطع الذي يتكرر من البيت الأول من القصيدة:
كان هناك زمن/ يثق فيه المرء في عزلة المشهد،
مع اختلاف الكلمات حتى نهاية القصيدة. فلو أن القصيدة بدأت
بـ هنا تقطعت به السبل/ ضحكة طفل لم يعد إلى البيت،
وهو أقوى أبيات القصيدة، ثم انتقلت إلى آخر المقطع في ظروف أخرى، وضمته إلى المقطع الأخير، وحذفت منه الجمل المكررة لكانت قصيدة عظيمة- الليل وكلاب صيده تظهر في صورة المجرمين في قصيدة المنتزه:
الآن يجب توقيت الاحتفالات
لأنه بالقرب من الأضواء المبهجة
يتربص مفترسو الليل.
وتظهر على شكل سياسيين خلال الانتخابات:
مرّ مرشح المصنع
المسيح الورقي
مرّ الرجل ذو الوجه المزيف
وعينيّ القارض
وفي قصيدة قمر الفنتانيل، تظهر على هيئة المرأة ذات الثوب الأصفر في صورة الصحف;
منادية بالموت والفتنة
تربح من الورود السوداء في القلب
هل يرضيكِ أن تتذوقي أثر الدماء
الذي يتردد صداه في الظلام؟
في ”أبطال البحر“، و”وقوس القزح الذي وجدوه في دمي“، و"الموقعون" تأخذ بالليل وكلابه ابعاداً أوسع. هذه القصائد الثلاث سامية، وهي من بين الأفضل في الكتاب. في الأولى، نقد لاذع يكاد يكون نبوياً:
ها هم يأتون من يلوثون الحبر الذهبي
من يملؤون أفواههم بالهتافات والورود
من يفرضون ظلهم
فوق النار والذاكرة
والثاني:
مجموعة تجمع العسل قوس قزح
منحنية بين الجبال
تملأ أوعية المشهد
بعسل الخروع
أما القصيدة الثالثة فهي كونية . تتصل بالجزء الأول من الكتاب وتبرر موقف ومزاج الذات الشاعرة الضحية والباكية.
هناك شكليات طغت عليها
فوضى من العطور الفاخرة
تنازلاتٌ وحبات معلقة بلعن العلقم
عندما يتم وضع بعض الرهانات على جدول الرواتب
وتُهيّأ للحكاية الأنوال والعِوَجُ
ربما الرجل الأميق والمزخرف
يتحمل نصيباً مشرفاً من الذنب...
فالنقد الاجتماعي ليس نقداً دعائياً، ولا يقصد به التنديد فقط، بل الكشف عن حقائق قاسية من مذبح مكسور. وإذا كان في هذا الجزء من الكتاب شيء من الذنب فهو الإفراط، والرغبة في قول أكثر مما هو ضروري، وقد لاحظنا ذلك في قصيدة ”ظلال المنتزه الوحيد“، وكذلك في قصيدة ” الصورة التي كانت تجول على الارض" التي كان ينبغي أن تحذف فيها هذه الأبيات التي سأذكرها بعد ذلك لعدم جدواها:
...
لم أتخيل أبداً أنهم سيستخدمون تلك الصورةلمحاولة فك شفرة مكان وجودهمالذي سيضيع أثره في الفيديو الضبابي لكاميرا الأمنمن كاميرا الأمن...الشاب لا يظهر وهاتفهلا يصدر أكثر من صوت...الشاب لا يظهر وصورته...حتى ...
ونجد في الجزء الثالث من الكتاب شاعراً يدافع، ويثير الوعي، ويلقي مرة أخرى عصا القضاء، والقصيدة الأولى تعطينا أكثر ثلاثة أبيات لا تُنسى:
كم عدد الذين سيحملون القمر كالصليب؟
كم عدد الجثث التي يجب أن تحترق
لفك عطر الموت؟
على الرغم من أن القصيدتين الأخيرتين تذكّران بقصيدة بوب ديلان ”نفخ في الريح“، إلا أنني أعتبرهما أصليتين. القصيدة الثانية نبوية. وهنا نكتشف أن الشاعر كان يحدثنا عن شخص ما طوال الكتاب. في الجزء الأول هو مراقب يحذر وينصح:
ثم جاء شخص ما في يوم من الأيام
حتى يسحب أحدهم الرافعة
ويجب أن أعود إلى مكتبييهمس لي أحدهم بأن العالم
لا يدين لي بشيء سوى الأقنعة
لإبقاء فمي مغلقاً
في الجزء الثاني يكون ذلك الشخص غامضاً، يتأرجح بين نوع من كلب الصيد الذي يصبح، بلامبالاته بالوقائع، متواطئاً غير متعمد: شخص ما يتردد ويهمس بأنه رآه/ شخص ما نسي أن يلتقط صورة فوتوغرافية لتلك اللحظة الواحدة؛ لكنه أيضاً في بعض الأحيان يكون الليل: شخص ما يركض في الجانب الآخر من المحكمة/ لأن شخصاً ما - وليس ساحراً - /لا بد أنه يتربص بالمصارف/ شخص ما يلقي شبكة من البرق في الأفق. /أخشى أن يصطاد الفراشة الصغيرة: ولكن، أيضاً، أن يبدأ هذا الشخص في نهاية الجزء الثاني في اتخاذ طابعه النبوي، حتى يصبح أملاً للذات الشاعرة، منقذاً ومخلّصاً ومطهّراً للمجتمع، و”بيده منجله لينظف البيدر ويجمع قمحه في الحظيرة ويحرق القشر في النار الأبدية“ (1): آمل أن يأتي يومٌ ما/ أن يعزم أحدهم على انتزاعك.../ إذا، فجأة، يحفر أحدهم ويزحف/ ويجمع ويجدل/ سلسلة من الحقائق العنيفة/ المعزولة والمحكمة.../ أن يسقط أحدهم شرارة في المدينة الورقية/... من الممكن أن يظهر أحدهم بين الخرائب/ ويبدأ بالكنس أمام فجرٍ طريّ وصامت.
(1) متى 3:12
يظهر في القصيدة الأخيرة من الكتاب شخص ما كان ينبغي أن يكون في الجزء الثاني، مما يجعلنا نفهم أنها زلة محرر. ولكن أكثر هذه الأشخاص غرابة هو ذلك الشخص الذي يظهر في صورة رجل، في قصيدة ”فارس العاصفة“، وهو في رأيي هو المسيح الموعود به في قصيدة ”قلعة الورق “. لو فصلنا هذا النص عن الكتاب لقلنا إنه قصيدة بسيطة مهداة إلى عمّ المؤلف نفسه، لكن داخل الكتاب، وكونه جزءًا من مجموعة أفكار مترابطة مع بعضها البعض لتكوين خطاب، عالم روني شعري ولا يمكن عزله لذاته، لأن اللاوعي محصن ضد نخر الزمن وصدأه، حتى لو كتبت كل قصيدة في أوقات مختلفة. علاوة على ذلك، فإن انتقاء المؤلف لكل نص بعناية مقصود لغرض خطابي، سواء أكان واعياً أم لا. تبدأ القصيدة بنوع من الرد على الأبيات الأربعة الأخيرة من قصيدة ”قلعة الورق“:
هناك رجل، دمه
صقلته مطرقة ثور
...
هناك رجل، هزت حلمه
عذراء الرحمة
...
هناك رجل، كلمته
صاغها الملاك والأقزام
هذا المسيح. المسيح دمه إسكندنافي، وحلمه هزّته راعية كاثوليكية، وكلماته صاغها الملاك والأقزام، ولأنه روّض العاصفة التي كانت تروّض المدارات الغاضبة/ لترفع علمها على قلب شعبٍ مشتعل، يعاقبه بابا كانديلو بالأرق، ومنذ ذلك الحين، لا تنطفئ حفلة العصي/ التي تتردد في صدره. هذا المحاربُ المسيحُ يأتي على آياهواسكا ويهجمُ على هجمة/ الحيّات المسحورة/ على الذين يأكلون بعيداً/ ”كتابَ الحياة“...
تقول الكلمات أكثر مما يريد صائغها التعبير عنه. وإذا ما حاولنا أن نترجم هذه الأبيات المذكورة آنفاً إلى صفة لهذا المسيح، نرى أنه رجل أوروبي، عوقب وقهر من قبل أفريقي، وغذّي بمواد أصلية. مسيح أوروبي متحوّل، كاريبي:
ثور ومنجل منتصف الليل: مزيج من الأساطير الإسكندنافية مع صور الحلم أو الموت.
عذراء الرحمة: رمز مارياني مهيب في التدين الشعبي الدومينيكي والكاريبي، مرتبط بفداء العبيد.
الشيروبيم والأقزام: شخصيات من المتخيل المسيحي والأسطوري تشير إلى كل من الإلهي والوثني.
بابا كانديلو: الحامي والمنتقم ورمز المقاومة والنار، وهو بارز في الشعوذة الدومينيكية.
أخيرًا، كان ينبغي أن يُختتم الكتاب بقصيدة ريناسيمينتو بسبب موضوعها الموضعي الواضح في البيتين الأولين اللذين لا يُنسى:
الاستيقاظ في عالم يفوض تاريخه إلى نقرة آلة:
غير أنه يليه ”مرثية للقبطان الذي حلم“، وهو ما يضفي على الكتاب دائرية من حيث نبرة الضحية ونبرة البكاء التي تتسم بها الـ”أنا“ الشعرية:
كيف يمكن أن يبزغ الفجر
إذا لم أعد أهتدي بالملاك وخرزاته الذهبية؟
كيف يمكنني العودة إلى سباق النهار
إذا كانت الدموعُ لا تكفي، والزهرةُ لا تكفي؟
كيف أقول غداً أو جنّة
أمام البحر
إذا لم يكن هناك أكثر من الصلبان تحت السماء؟
لكن هذه الذات الضحيّة تطوّرت، فخلعت عباءتها السلبية وتمرّدت، وأدانت الليل وكلاب صيده.../ واقتلعت جذور النوم.../ ورفعت خط النار...
أيضًا بقلم جهاك فالكورت في مجلة ”ليتيراتور“: ما نسكت عنه في ”الشاحنة“.
إن القفزات النوعية تمنح القصيدة قوة تجعلنا نشعر بالغيظ والضجر من الـ”أنا“ الشعرية التي لا تزال سلبية دائماً، وتعاتب نفسها على حرمانها الدائم من الرد بعد أن سقطت مرات عديدة أمام هجمة الأمواج العاتية؟ ويظن المرء، نعم، إنها نهاية مبيّتة رائعة؛ ولكن لا، ثم تأتي قصيدة ”فارس منتصف الليل“ التي تبدو لي منفصلة عن ”أنا“ الشاعر التي حللناها في نهاية الجزء الأول، أي أن كل ذلك التحليل سيسقط إذا كانت ”أنا“ الشاعر في القصيدة الأخيرة هي المؤلف نفسه الذي يهدي إلينا عتاباً وكأنه أدرك فجأة جبنه وقصوره أمام قسوة العالم فعاتب نفسه:
وما زلت تسألني لماذا أقلّب العملة المعدنية
العملة وأراهن على الشعر؟
هل ما زلت تسألني لماذا أنفخ
حفنة من الرمل في ضوء القمر؟
ويسامح نفسه على الفور، مدركًا أن فعل وضع قلمه تحت رحمة الكلمات هو في حد ذاته فعل مقاومة:
كيف تترك الكلمة في منفضة السجائر
وأرفض بركة موسيقاها؟
كيف لي أن أنشغل بالأعمال الورقية اليومية
وأحرق في قلبي أجنحة الشعر؟
قد لا أستطيع أَن أنقذ الجرو الذي
يندفع بسعادة نحو التدافع الفولاذي
ربما لا يسمع أحد صراخي
من أجل اختطاف الألوان
على لوحة التاريخ
ولكنني ببساطة لا أستطيع أن أسكت ما دامت
لا تزال زهرة تحترق على الأسفلت.
وأقول إنها مديح لأن أكثر ما يلفت النظر في هذه القصيدة هو هذا البيت تحديداً:
دفنت امرأة أخرى لأن أحدهم
لم يستطع أن يبقي سحابه مغلقاً.
وهو ما يجعلنا نتساءل كيف يمكن أن تكون الذات الشاعرة نفسها التي كتبت شيئًا مفجعًا إلى هذا الحد، غير حساسة بما فيه الكفاية لفهم إجهاض معين، في قصيدة ”حلقة او سلسلة “ ( Eslabón ):
أحتفظ برأيي اليوم في محفظتي....
أعصرها عندما يتم استجوابي
في ساحة الحظيرة...
مَنْ حولي يهيئون المدفعية
وأمسح الجدار...
ثم أومئ برأسي...
وأبتسم في رعب
أرفع قبضة يدي للأم التي تطفئ
النجوم في رحمها...
وهنا يكمن الصراع والانفصام في الذات الشاعرة الذي أشرنا إليه في البداية. وهكذا يمكننا أن نستنتج أن الشاعر لم يقصد في النهاية أن يصور المجتمع أبداً، بل أن يبكي الأحزان التي سحقت قلبه طويلاً، ثم يعود إلى روتين حياته. لنأمل أن نكون مخطئين.