سمير اليوسف عن أغنيات للعتمة
إيمان حميدان | أغنيات للعتمة | دار الساقي | 256 الصفحات | 12 USD
ثريّة وعديدة هي العلامات التي قد تشجعنا على وصف رواية الكاتبة اللبنانية إيمان حميدان بـ"نصٍّ نسويّ". إنها أولاً رواية عن النساء، عن أربعة أجيال من نساء عائلة واحدة يمتد حضورها ما بين عام 1908 وينتهي عام 1982، بما يجعلها أشبه بعمل ملحمي يتعقب مصائر شخصياتها في سياق حياتهن الفردية والتاريخ الذي ينتمين إليه معاً.
"أغنيات للعتمة" إلى ذلك قصة نساء في مواجهة نظام ذكوري الطابع في الثقافة والأداء والعنف، الشرعي منه وغير الشرعيّ. ولكن على رغم هيمنة السلطة الذكورية في المجتمع الذي تنتمي إليه هذه النساء إلا أن الرجال في الرواية من سلبيّة الحضور بحيث يبدون أقرب الى شخصيات النساء في الروايات التقليدية التي يكتبها الذكوريون من رجال ونساء عموماً.
بخلاف كاتبة وناشطة نسوية رائدة شأن نوال السعداوي، فإن إيمان حميدان لا تكتب الرواية لكي تتحدى الناكرين والمستنكرين لقضية المرأة، أو لكي تجنّد المتعاطفين والمتضامنين مع هذه القضية، من خلال كتابة القصة البديلة. إيمان حميدان تكتب القصة الأصلية، القصة التي تتجاوز الثنائية الجنسية (الجندرية) إلى ما هو أبعد وأعمق، إلى المكبوت أو المُستبعد والمُهمش في المجتمع والوعي الثقافي. فهي تعود إلى الأصل المؤنث، الطبيعة الأم، التي تعطي دون حساب ومقابل. أنها تقوم بما هو متوقع منها كرمزٍ للعطاء، للخلق والإبداع والتجدد، الذي يجعل استمرار الحياة في مواجهة خطر الهلاك والعدم ممكناً وفعلاً.
هذه هي الرواية الخامسة للكاتبة التي تجاوزت مسيرتها الإبداعية ربع قرن من الزمن. وفكرة الأصل المؤنث ليست جديدة على أعمالها. في الحقيقة نجد بداياتها في روايتها الأولى "باء مثل بيت .. مثل بيروت" وهي ما انفكت تتجذر في رواياتها اللاحقة ولكنها الآن تبدو أوضح. الجدة الكبرى، شهيرة، أول الشخصيات الأربع وأقواها حضوراً، هي مثال لهذا الأصل المؤنث، وعياً ولغةً في التعبير والفعل. فهي لا تعبر عن وعيها ببلاغة التمرد أوالشعارات النارية أو النظريات التجريدية. إنها في الحقيقة لا تستخدم النثر لغة للتعبير وإنما الموسيقى والشعر، لغة الطبيعة الأصليّة كما تتجلى في الغناء.
شهيرة تحب الغناء ولكن الغناء وسيلة أيضاً لكي تسمع صوتها ولكي تشدد، بواسطة صوتها، على وجودها وعواطفها وآمانيها. إنها لغة وأداة تطرد بها الإحساس بالوحدة والوحشة. بالأغنية تقهر ما يجعلها تحس بالعزلة والضعف وقلة الحيلة فلا تخضع وتستسلم خاصة في عالم يتوقع منها الكثير، وبعض هذا الكثير تضحيات جسيمة، ولا يمنحها بالمقابل سوى القليل جداً أو لا شيئا.
وبالغناء أيضاً تخاطب شهيرة العالم من حولها، الناس والطبيعة. هي اليافعة السن الغريبة أمام مسؤولية إجتماعية ثقيلة في عالم جديد عليها، بعد أن تتزوج باكراً وتنتقل من القرية التي ولدت ونشأت فيها إلى قرية أخرى، ولكنها تتسلل إلى العالم الجديد لتعرف خفاياه وأسراره وتتمكن أن تديره إن ليس بالقوة والعنف أو بالإقناع فالبتحايل. تلعب دور الأم لأطفال شقيقتها وابنتها الراحلتين باكراً، تصير أمّاً قبل أن تنجب هي نفسها وتستمر في مزاولة دور الأم حتى حينما تصير جدّةً.
تبدو شهيرة وكأنها تمعن في الغناء استجابة فطرية منها لموسيقى العالم الطبيعي من حولها. هذه الموسيقى هي الحركة السريّة التي لا يستشفها إلا من يُجيد الاصغاء إلى صوت الطبيعة. لذلك فإن شهيرة، دون غيرها من نساء ورجال، توقن بأن هذا العالم لا بد وأن يتغيّر، أن يُغيّر وسائله التقليدية وسبله وإلا فهو الهلاك التام. بذكاء فطري وفطنة وقليل من العلوم تتحايل على العالم الذي أُرغمت على الإنتماء إليه وقيادته ومن ثم دفعه نحو المستقبل.
تتميّز شهيرة عن المحيطين بها بوعيها التاريخي للزمن. في حين أن الأمر عند الناس في محيطها يتلخص بالتمييز ما بين الأوقات تبعاً للأفعال والمهمات التي يقومون بها فإن شهيرة تستشف حركة زمنية تعاقبية تشيّ بالتغيّر وبضرورة التغيير. من هنا فإنها احتساباً للمستقبل تعمل على تغيير الواقع استباقاً لما سيأتي. شهيرة شخصية "تقدمية" وإن ليس من منطلقٍ فكري طوباي، أو أي منطلق فكري آخر، وإنما هي بطبيعتها شخصيّة عمليّة. لهذا فحينما تموت ابنتها تعجز عن التعبير عن ألمها من خلال اللغة العامة كما يفعل بقية من حولها. تلوذ صامتة حيث الغناء، لغتها المفضلة، لا مكان له في عالم الموت.
بخلاف السرد التاريخي العلماني الشائع، فإن واقع المرأة وفقاً لرواية "أغنيات للعتمة" لا يتحسّن أو يصير أقل سوءاً بفعل العلم والتقدم الفكري والسياسي. بالعكس تماماً. قياساً بحياة ومصير شهيرة، فإن معاناة نساء الأجيال الثلاثة اللاحقة لهو أسوأ وأفظع: يرحلن موتاً مبكراً وجنوناً واختفاءً غامضاً وفراراً، إلا شهيرة فإنها تبقى وتعمّر، تعيش حتى سن الثالثة والثمانين. ورغم كل ما تواجهه وتعاني منه، فإنها تقاوم وتصمد في عالمها الأصلي وبيئتها الطبيعية.
في ظل قامة شهيرة العالية تحضر وتغيب شخصيات الرواية الأخرى: الإبنة ياسمين، الهشة الشخصية والقصيرة العمر. تموت في الليلة التي تلد فيها وهي ما زالت في السابعة عشر من العمر. والحفيدة- الابنة ليلى، الرومنطيقية الشخصية، والتي في مواجهة الفراغ والعدم بفعل غياب والديها (وفاة والدتها واضطرار والدها للعمل بعيداً عن القرية) توغل في عالم الخيال الذي تمدّها به الروايات والقصص الأدبية بحيث أنها تغيب عن الواقع غياباً شبه تام. وهي حينما تُرغم أخيراً على مواجهة الواقع تسقط ضحية العنف الذكوري على أقبح وجوهه، تُصاب بالجنون وتختفي. حتى أسمهان الصحفية والكاتبة فإنها نفسها لا تجد مناصاً من الرحيل بعيداً عن العنف الذكوري بشكليه العام والخاص، الحرب الدائرة منذ عام 1975 والزوج-الطليق الذي لا يتورع عن حرمانها من ابنها بقوة القانون نفسه.
تكتسب شهيرة هذه المكانة الرفيعة لأنها، بخلاف نساء الأجيال اللاحقة، لا تعتمد على الرجال بشكل رئيسي، بل ولا تثق بهم أصلاً. وبذا فإنها لا تضطر إلى الخضوع للنظام الذكوري السائد، ولا إلى الفرار منه أيضاً. إرادة الأصل المونث التي تمتلكها تُغنيها عن الإعتماد الكامل على الرجل. إنها إرادة الطبيعة نفسها، صلبة ومرنة معاً، صلبة حينما يتطلب الأمر صموداً ومثابرة ومرنة حيث ثمة حاجة للتنازل والإنحناء، تماماً كما الشجرة التي تنحني في مواجهة الريح لكي لا تنكسر.
إذ تنتهي الرواية قبل اسبوعين من نهاية عام 1982 فإنها تتترك القارئ أمام مسافة زمنية مديدة تُجيز التساؤل عما جرى منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. ما الذي جرى لأسمهان ولابنتها لمى؟ ما الذي جرى لليلى فعلاً منذ اختفائها في عام 1963؟ أو لويدا صديقة أسمهان، التي تتوجه إليها بهذه القصة أصلاً؟ من المحتمل أن توقف السرد عند ذلك التاريخ هو تمهيد لولادة جزءٍ ثانٍ لرواية "أغنيات للعتمة". دعونا نأمل ذلك حتى وإن تطلّب الأمر انتظار سبعة أعوام أخرى وهي الفترة الزمنية التي تطلبت انتاج هذه الرواية المُدهشة.