عندما بدت الحرية ممكنة

Basic BooksLyndal Roper | Summer of Fire and Blood: The German Peasants‘ War | Basic Books | 501pages | 30 GBP
اللوم كان على الحلزونات. عندما أمرت كونتيسة لوبفن في ستولينغن بولاية بادن في منتصف موسم الحصاد، أقنانها بجمع أصداف هذه الحيوانات اللزجة، رفض الفلاحون الانصياع. كان هناك ما هو أهم من جمع أصداف الحلزونات، فقط لكي تتمكن سيدات البلاط من لف الخيوط عليها. في يونيو 1524، يوم الانقلاب الصيفي، ثار الفلاحون ضد أسيادهم. وسرعان ما انضم إليهم آخرون من القرى المجاورة يشاركونهم نفس الرأي. وبحلول الخريف، أصبحوا حشداً له رايته الخاصة، وحدة عسكرية غير منظمة تضم فلاحين وحرفيين ومتمردين آخرين. بدأت حرب الفلاحين، وطوال عام كامل تقريبًا – الخريف والشتاء والربيع والصيف – سيطرت أحلام عالم أكثر أخوّة وعدالة على مجريات الأحداث في وسط أوروبا.
بمناسبة الذكرى السنوية الـ 500 على القمع الدموي للانتفاضة، نشرت المؤرخة الأسترالية ليندال روبر، التي تدرّس في أكسفورد، كتابًا مفصلاًّ ومتقنًا للغاية، يلتزم بتقاليد نقل المعرفة الأنجلوسكسونية، بعنوان ”من أجل الحرية“، تتتبّع فيه، باقتناع كبير وشغف ظاهر، العالم الذي عاش فيه الفلاحون وتحرّكوا من ضمنه. لكن روبر لا تولي ثقة كبيرة للمصادر المكتوبة التي بقيت من تلك الفترة. إذ ان الثقافة الريفية آنذاك كانت تتسم أساسًا بالتقاليد الشفوية، وكان العديد من الفلاحين أميين. وما تم تداوله كتابةً كان في الغالب من منظور النبلاء أو رجال الدين أو، في أفضل الأحوال، من منظور أنصار الإصلاح المتعلمين في المدن. ولتجنب ”فخ المصادر“ هذا، أخذت روبر على عاتقها مهمة سرد قصص المتمردين بشكل أساسي. وهي تعيد بناء التجارب التي مر بها المتمردون خلال رحلتهم بمعرفة واسعة وتفاصيل دقيقة. وتذهب في منهجيتها إلى حد تتبّع مسارات المجموعات المختلفة سيرًا على الأقدام أو عبر استخدام دراجة هوائية لفهم السرعة والمناظر الطبيعية والتضاريس والطقس وتأثير الفصول.
ترى روبر أن الانتفاضة، التي أودت بحياة 70 ألف إلى 100 ألف فلاح في نهاية المطاف، لا يمكن تفسيرها بالظروف الاقتصادية لتلك الحقبة وحدها. فالسوق كان قد انفتح أمام الفلاحين في السنوات السابقة: ”لكن الثورة كانت موجهة ضد نظام الحكم برمته، ضد ’المسيح‘، وضد الخدمات الإجبارية، والعبودية، والضرائب القسرية“. لم تكن حركة الاصلاح الديني غطاءاً للثوار، بل كان لها تأثير مباشر وراديكالي على الصعيد الاجتماعي، وكان هدفها تغيير المجتمع.
في عام 1520، نشر لوثر كتابه عن حرية الإنسان المسيحي. انتشرت الترجمة الألمانية للنص بسرعة كبيرة في ذلك الوقت، خاصة بفضل تقنية جديدة ثورية: الحروف المتحركة في الطباعة. وبحلول عام 1525، تم طبع ما لا يقل عن 19 طبعة أخرى من هذا الكتاب المثير. وكان البيان اللاهوتي الجوهري الذي مفاده ان الفرد لا يحاسب إلا امام الله، يتجلى لدى الفلاحين في المطالبة بتقديم نبيذ القداس للعامة أثناء القداس. ففي النهاية، وبحسب ما ورد في الإنجيل، فقد اشترى المسيح حرية الإنسان بدمه.
على الرغم من أن لوثر سرعان ما نأى بنفسه عن الفلاحين وأهدافهم، إلا أن فكرة المساواة والأخوّة أحدثت تأثيرًا هائلاً في عالم المتمردين. انتشرت فكرة الحرية كالمد التسونامي من عالم لاهوتي مجرد إلى عالم التجربة الملموسة. وجاءت معها لحظة إدراك محرِّرة بأن سلطة النبلاء والكهنة ليست ممنوحة من الله.
متسلحة بهذا المنشّط الفكري، سرعان ما انتفضت مجموعات أخرى من الفلاحين وصاغت عددًا كبيرًا من الشكاوى والمطالب الفردية الموجهة إلى الحكّام المحليين. يمكن قراءة ”مواد ميمينغ الاثنتي عشرة“ الصادرة في مارس 1525 على أنها أساس لما يدور في أذهان الفلاحين. على سبيل المثال، تطالب المادة الأولى ”بأن يكون للمجتمع بأكمله الحق في انتخاب وتعيين قسيسه“. كان هذا مفتاحًا مهمًا للإصلاح في كنائس البلاد. وثالثًا، كما هو مكتوب، "كان من المعتاد حتى الآن أن تعتبرنا السلطات عبيدًا لها، وهو أمر يثير الشفقة بالنظر إلى حقيقة أن المسيح قد خلصنا وافتدانا بسفك دمه الثمين، سواء كرعايا أو كأعظم الناس، دون استثناء. لذلك، فإن الكتاب المقدس ينص على أننا أحرار ونريد أن نكون أحرارًا".
يصوغ هذا النص في جميع مواده الاثنتي عشرة رؤية اجتماعية ثورية في عصره، مستوحاة من أفكار إصلاحية جذرية. وأصبح بيانًا لحركة جماهيرية اتفقت على الاعتراف بمحتواه، دون أن يكون جميع المشاركين على دراية به بالضرورة. انتشرت الاثنتا عشرة مادة في وقت قصير بفضل تقنية الطباعة الجديدة. واصبحت يُستشهد بها، إذ باتت تبلور العديد من مواقف ومعتقدات المتمردين.
في ربيع عام 1525، سيطر الفلاحون لمدة ثلاثة أشهر على منطقة تشمل أجزاء كبيرة من ألمانيا الحالية. خسروا لأنهم يفتقرون إلى التدريب العسكري والهيكل التنظيمي، ولأنهم أقل شأناً من أعدائهم من حيث القتال والأسلحة. تلاشت رؤية مجتمع جديد على ساحات القتال في فورتساخ وشيرفايلر وليبهايم وبوبنغن وكونيغسهوفن وبفيدرزهايم وفرانكنهاوزن والعديد من المواقع الأخرى التي شهدت الانتفاضة. بقي نظام القنانة قائماً، واستمر الرعايا في دفع العشور.
في رحلتها عبر الزمن إلى الفلاحين في أعوام 1524/25، توضح ليندال روبر كيف تطورت رؤية المتمردين من لاهوت الخلق، حيث كانت العلاقات بين الناس قائمة على الصدق وليس على الجشع والبخل. كتبت: ”كان الناس غاضبين لأن الملاكين الأصليين استولوا على ملكية الموارد الطبيعية، المياه والأراضي العامة والغابات، على الرغم من أنها كانت من خلق الله وبالتالي ملك للجميع“. وبذلك تطرقت إلى أسئلة لا تزال حاضرة اليوم كما كانت آنذاك: لمن تعود ملكية الموارد الطبيعية؟ من يتحكم في مصادر الطاقة؟ كيف نتعامل مع مورد الأرض المحدود بشكل مستدام؟