قلوب مكسورة

Navigation

قلوب مكسورة

إلى منى أحمد سيف ووفا علي مصطفى
Hilal Chouman

 

إنه الصيف في جنوب الكرة الأرضية (وهو الشتاء في شمال الكرة الأرضية)، وفي شهر يناير تجمعهم جميعًا مجلة Literatur.Review، وتنشر قصصًا لم تترجم أو لم تنشر من قبل من شمال وجنوب عالمنا.

هلال شومان روائي من لبنان. وُلِد في بيروت عام ١٩٨٢. نُشِرَت له بالعربيّة حتى الآن خمس روايات: "ما رواه النوم" (دار ملامح – ٢٠٠٨)، "نابوليتانا" (دار الآداب – ٢٠١٠)، "ليمبو بيروت" (دار التنوير – ٢٠١٢)، "كانَ غدًا" (دار الساقي - ٢٠١٦)، و"حزن في قلبي" (خان الجنوب - ٢٠٢٢). تُرجمت روايته ليمبو بيروت (٢٠١٢) إلى اللغة الإنكليزية ووصلت للقائمة القصيرة لجائزة سيف غباش – بانيبال للترجمة الأدبية، وللقائمة الطويلة لجائزة PEN للترجمة. ينشر المقالات النقدية والنصوص الأدبية بشكل غير دوري في مواقع وصحف لبنانية وعربية. يقيم حاليًا في تورونتو بكندا.

١

هل كان علينا أن نسقط من شاهق لنصل إلى ما وصلنا إليه؟ وهل نفهم فعلًا إن نبشنا في الماضي أكثر؟

تعبر الأسئلة ذهني وأنا أتابع تقارير الأخبار المصورة في هاتفي.

أسأل ولا أجد إجابةً. أضع الهاتف جانبًا وأعيد سماعات الأذنين إلى علبتها، وأنهمك بحثًا في الكتب التي راكمتُها أمامي على الطاولة. أرفع رأسي لأراقب ندف الثلج المتساقطة خارج النافذة. عندما دخلت المكتبة، قبل نصف ساعة، كانت السماء مشمسة صافية. ألبس معطفي وأترك أغراضي في المكتبة وأتجه إلى الخارج. أتأمل الثلج على مقربة محتميًا بسقف المدخل لدقائق، ومنجذبًا إلى قوة الهطول، أغطي رأسي بقبعة المعطف، وأغلق السحاب وأخرج إلى الفناء الخارجي.

يتساقط علي الثلج لدقائق، أتأمل في بياضه المستقر على معطفي السميك، وأفكر كم أنَّ الأشياء أحيانًا تكون، بعكس ما نظن، سهلة.

***
أ

ونحن عندما كنا نعبر على الطريق، كنا نترك الخراب وراءنا، كأننا ندفعه بعيدًا عنا،  أو كأننا نُخرِج أنفسنا منه، لكنَّ رحلة الهروب هذه لم توقفه. لقد ظل الخراب يرافقنا طيلة المسيرة آبيًا الاختفاء، متخذًا أشكالًا توغل أكثر في المأساة. سيارات محترقة متروكة على قارعة الطريق المملوء ببقايا الحجارة المقذوفة من تلال قريبة وبتراب وطين انبعث من تحت زفت الطريق. نمشي بحذر، ونحن نلحظ الدخان متصاعدًا على مقربة. مبنى، مبنيان، وأحياء هدمتها الطائرات والصواريخ والمُسيَّرات. أشجار غاب لونها الأخضر تحت رماد الأبنية المهدَّمة، وعواميد كهرباء انحنت من موقعها. نمشي مُغَطِّين أنوفنا، محتمين من رائحة غريبة تسيطر على المكان، نمضي إلى الأمام ولا نعرف إن كنا قد شممنا رائحة الأشياء المحترقة أم رائحة الموت المتروك في باطن الأحياء، أم رائحة مغادرتنا. نمشي ولا نعرف إن كنا سنعود. نعجل في خطانا ونحاذر أن ننظر وراءنا، كي لا يتملك منا الحزن فلا تكتمل رحلة هروبنا.

***
٢

أخرج من المكتبة. أجد مكانًا منزويًا قرب المصعد، فأضع سماعاتي من جديد وأتصل بأمي. أتركها لتخبرني عن أخبار أخواتي وخالاتي وأخوالي وعماتي و و.. ومن ثمَّ تحل اللحظة نفسها من كل مكالمة: «وإنت؟ شو أخبارك يا إمي؟».

وأنا لا أعرف كيف أجيبها بغير القول إني «منيح». لكنَّ إمي تعاجلني كعادتها: «طب خبرني شو عم يصير معك».

أخبرها أني أقرأ رواية عن عائلة يكرِّر أفرادها الجمل نفسها حتى تكتسيَ معانيَ جديدة تفارق معانيها الأصلية باتجاهات مختلفة، وأنهم في النهاية يموتون بالكآبة، ثم أصحِّح: «يموتون بكسرة القلب».  

«بعيد الشر»، تقول لي، وأعرف أنَّ الموضوع لن يفضيَ بنا إلا لمزيد من التوجسات والحوارات القلقة، فأقرر أن لا أواصل الحديث عن الرواية وأن أنتقل للحديث عن أحلامي، فأذكر لها حلم المَسيرة.

***
ب

تقول لي الصغيرة التي ترافقنا في المَسيرة إنَّها أسمَت قطتها جنجر نسبةً للونها البرتقالي، وتحدِّثني عن ذكاء القطط البرتقالية، وجنونها، وقدرتها على التحمل.  القطة في حضنها فاغرة الفاه، تتنفس بسرعة وبصعوبة. أنتبه أنها قد تكون مصابةً بالجفاف، فأسأل الصغيرة متى كانت آخر مرة شربت فيها القطة. تجيبني أنها لا تملك ساعة وأنها لا تعرف اليوم الذي نحن فيه. أخرج مطرة المياه من حقيبة الظهر وأدلق قليلًا من الماء في الغطاء وأضعها على الأرض وأطلب من الصغيرة أن تترك القطة لتشرب، لكنها تقربها فقط من دون أن تفلتها من يديها، فتشرب القطة بتلهف.

***
٣

أعود إلى طاولتي داخل المكتبة، مفكرًا في ما قالته لي أمي: «الأحلام إشارات إلى شعورنا بالنقصان. تحيلنا إلى ما حدث أو تلاعبنا بما لم يحدث، أو تذكِّرنا بما نرغب أن يحدث أو أن لا يحدث».

أفتح الكتاب الأول. على الصفحة الأولى امضاء لأحدهم مذيَّل باسم المدينة: «بيروت ١٩٨٧»

أفتح الكتاب الثاني، وكما الكتاب الأول، امضاء آخر  مذيَّل هذه المرة بـ: «دمشق ١٩٧٩»

الكتاب الثالث: «القاهرة ١٩٩٤»

الكتاب الرابع: لا شيء.

الكتاب الخامس: لا شيء.

الكتاب السادس: «القدس ٢٠٠٣»

أنهض إلى الكونتوار مع الكتب الأربعة الممضيَّة وأسأل الموظفة عن مصدر الكتب. تجيبني بجلافة أنها لا تعرف. تتقدم موظفة أخرى وتدعو زميلتها أن تنظِّم الكتب في الطابق الثاني، فتنفِّذ الموظفة الأولى الأمر وتترك مكانها. تسألني الموظفة الجديدة إن كنتُ بحاجة إلى مساعدة، فأعيد سؤالي.

تدقِّق الموظفة في الرقم الأرشيفي الملصق على كعب الكتب، ثم تنهمك باحثةً في الكمبيوتر أمامها. ترفع رأسها وتخبرني أنَّ كتابين قد تبرعت بهما منظمة عربية في المدينة، أما الكتابان الآخران، قدَّمهما للمكتبة شخصان لا يمكن لها الإفصاح عن اسميهما ووسائل الاتصال بهما لدواعي الخصوصية.

***

ج

يقترب منا ولد مع قفص بعصفور ويقف مراقبًا. أسأله إن كان يحتاج عصفوره أن يشرب. يهز رأسه إيجابًا. في القفص، عصفور واقف على عمود وآخر ميت في أرضه. من دون أن أسأل، يلاحظ الولد نظرتي للعصفور القتيل، فيجيب بحزم: «نايم من مبارح». أومئ له برأسي وأساعده في إخراج المشربة المعلقة بالقفص، وأعبئها له بالماء.

تمر قربنا حاجة على مقعد متحرك. يتركها ابنها الذي كان يدفع المقعد، ويهرع إلى الخلف ليساعد زوجته. أحدِّق في الحاجة التي لا تبدي انفعالًا من توقُّفها، بل تكمل في تسبيحها وتمتمتها. ورغم عدم قدرتي على سماعها من حيث أقف، أؤمن في تلك اللحظة، في تلك اللحظة تحديدًا، أنَّ جمْعَنا محميٌّ بتعويذتها. أجلس على الأرض وأتابع جمع الناس وهم يعبرون ناجين، وأشعر بلكزة خفيفة وغير معتادة في قلبي سأتذكرها طيلة حياتي الآتية.

***
٤

أجلس على السرير الطبي، فيمرِّر الطبيب السماعة على ظهري، ويطلب مني أن أشهق وأن أزفر مرات عدة، ثمَّ يعود إلى ما وراء مكتبه ويطلب مني أن أنزل من على السرير معلنًا انتهاء الفحص الروتيني.

يعلمني أنَّ الأشياء طبيعية وأنَّ التحاليل لم تظهر شيئًا غير عاديًا.

«ووجع القلب يا دكتور؟»، أسأل.

«مجرد قلق. هل فكرت باليوغا أو بتكرار تمارين التنفس؟ هل لديك أصدقاء؟ هل جربت العلاج النفسي؟ هل..»، يتحدَّث الدكتور لدقائق لا أسمعه فيها. أركِّز في دقات قلبي، وللحظةٍ أظنها تعلو حتى تكتم كل الأصوات حولي بما فيها كلام الطبيب.

أفكِّر في حلم المَسِيرة وأنا أضع يدي على قلبي لأحميه من اللكزة التي ظللتُ أشعر بها بعد استيقاظي. أفكِّر بالطفلة التي اقتربَت مني سائلة: «ما الذي يحدث عندما نموت يا عمو؟ ومتى نموت؟ صديقتي تقول إنَّنا نموت عندما تنكسر قلوبنا، ألا يمكن إصلاحها دومًا قبل أن تنكسر؟»

أفكِّر أنَّ القلوب المكسورة صعبة الالتئام، وأنَّ كسورها ليست جروحًا توقفها عن العمل، بل هي نوع من ذاكرة لا ترغب في المفارقة، تبقى للتذكير فقط بما حدث وما كان ينبغي أن يحدث ولم يحدث. ويخطر لي مع تزايد ضربات قلبي أنَّ صدوع العالم كلها تصل إليه، وأنَّ وصولها هو سبب الألم المفاجئ والمتصاعد.

«هل أنت بخير؟»، يهرع الطبيب من وراء مكتبه باتجاهي.

***

خاتمة

لم أتكلَّم منذ أكثر من عشر سنوات.

بعد أشهر من دخولي السجن، اكتشفتُ أنَّ الكلامَ محلّ شبهة. إن تكلمتُ تحت التعذيب، طلبوا كلامًا آخر واتهموني بالكذب. وإن حادثتُ أحدًا في الزنزانة الجماعية، أغامر بوصول كلامي إلى مخبر من مخبريهم.

توقفتُ عن الكلام تحت التعذيب ومن ثم في الزنزانات كلها، بعدما أخبروني أنهم سمعوني أدندن في زنزانتي الفردية آخر الليل. لا أعرف كيف حدث الأمر.  هل بالتدريج، أم في لحظة بعينها التزمتُ بعدها بقراري الصمت؟ تفتقر الذكرى عندي للوضوح. كل ما أذكره أنَّ عقلي وجسدي أعاناني بغرابة مفاجئة، وأنَّ تكرار الضرب توقف عن إخراج الكلام مني. صرتُ أكتفي بالهمهمات والحشرجات غير المفهومة، وأفكِّر إن كان الألم يزيد عندما يُعبَّر عنه أم ينقص. كل ما بقى لي كان عقلي، وجدران أكتب عليه ببقايا رؤوس الحجارة من بلاطة أو حائط مكسورين. أكتب كي لا أجنُّ، وكي  لا أنسى الكلام، ظانًا  أن كتابتي ستعيد إليَّ صوتي ذات يوم.

على الحائط الخلفي كتبتُ قصة أناس يمشون بين الخرائب، وأنا الراوي أمشي بينهم وأتفقدهم وأعين هذا وأساعد ذاك. معنا نساء ورجال وعجائز وأطفال وحيوانات، وعجائز نساء يتمتمن: ﴿أَفَلَمْ يسيروا في الأرضِ فَتَكونَ لَهُمْ قُلوبٌ يَعْقِلُونَ بها أو آذانٌ يسْمَعُونَ بها ۖ فإِنَّها لا تَعْمَى الأبصارُ وَلَكِن تَعْمَى القلوبُ التي في الصُّدورِ﴾.

أحاذر أن أكتب على المسافات الطولية للجدار المحيط بالباب الحديدي الأمامي لزنزانتي لضيقها، وكي لا أصدر صوتًا يأخذني إلى جلسة تعذيب أخرى. أما على الحائط الجانبي الأيمن فأعدُّ الأيام وأشطبها، وأكتب قصائد كنت أحفظها كي لا أنساها، ومنها قصيدة رياض الصالح الحسين:

لي قلب مكسور كسفرجلة
لدى كل رجل قطعة منه
اجمَعِ الرجال وقل لهم:
نحن لسنا لصوصًا
إنَّنا نعمل ثماني ساعات في اليوم
ومن حقِّنا أن نأكل السفرجل
اجمَعِ الرجال جميعًا فتجمع قلبي
قلبي المكسور كسفرجلة.

وعلى الحائط الجانبي الأيسر، أكتب قصة ولدت من قصة الحائط الخلفي، أروي فيها عن شخص في مكان بعيد يحلم بالمشاة بين الخرائب، ويظنُّ أنه يحلم فقط.

أغمض عينيَّ متفاديًا نور الشمس، وأفكر في الماضي القريب.

أتذكَّر كيف فتحوا لي باب الزنزانة. لا أذكر ما قالوه . لكنِّي أذكر أني لم أقل شيئًا. بقيت واقفًا حيث أنا بينما كانوا يشجعوني على الخروج. لما ملوا من استجابتي لدعوتهم وتركوني، فتقدمتُ خطوة وتوقفتُ قبل عتبة الباب، خائفًا من العبور فوقها. نظرتُ إلى المارين سريعًا خارج الزنزانة، وحاولتُ تبيُّن الكلام وسط الفوضى، لم أخرج إلا عندما رأيتُ صديق زنزانة من سنوات سجني الأولى يعبر أمامي راكضًا. استدركَ والتفتَ إليَّ عندما رآني، وابتسم، ثمَّ رفع إشارة النصر.

لم أفهم على من انتصرنا هذه المرة؟ ولِمَ يُخرِجوننا من السجن إن كنا قد انتصرنا؟

خرجتُ من الزنزانة للمرة الأولى منذ أشهر. تركتُ القصائد وقصتيَّ اللتين أعدتُ كتابتهما لسنوات بحثًا عن احتمالات لا تنتهي. مشيتُ وراء الجمع لاحقًا بحركتهم وإرشادات الواقفين على الجانبين وفي الردهات. كان الوقت فجرًا. جلستُ على التراب لا أعرف ماذا أفعل، حتى اقترب مني أحدهم يسألني: «تيجي معنا، عم؟»، وأضاف أنَّهم ذاهبون إلى وسط العاصمة.

نمتُ في الطريق. كانت المرة الأولى التي أشعر بها بملمس الهواء على وجهي، وعندما صحوتُ وضعتُ يديَّ على عينيَّ لأحجب ضوء الشمس.

أنزلوني في الساحة بوسط العاصمة. جلستُ مع آخرين على الأرصفة، وساعة بعد ساعة فهمتُ ما حدث. في اليومين التاليَيْن، سأنام تحت الجسر لساعاتٍ طوال، كأنِّي أسترد نوم الأعوام العشرة الناقص. سأبقى في مكاني متوجسًا من مغادرته، مفضلًا متابعة احتفالات الناس من على بعد.  وسيترك لي شباب لا أعرفهم فرشة ومخدة وغطاء، ويزوروني يوميًا عند الظهيرة ليزوِّدوني بالماء والطعام.

في اليوم الثالث، سأقرر العودة إلى حارتي، فأغادر الجسر، وأمشي على الرصيف محاولًا تذكُّر طريق المنزل. ثمَّ أقترب من جمعٍ من الناس. وعندما أنسلُّ بينهم أجدهم واقفين أمام صوَرٍ لأناس مفقودة ومعتقلة عُلِّقَت على السور. أمشي على الرصيف، متتبعًا خيط الصور، ومتفحصًا فيها جميعها، صورةً إثر صورة. ثمَّ يخف التجمع عند آخر الخط، وهناك، أجد صورتي.

تمر وراءنا في الطريق مظاهرة احتفالية يعلو فيها الغناء والهتاف.

أشعر بلكزة في القلب، فأجلس تحت الصورة محاولًا الكلام: «هذا أنا.. هذا أنا»، لكنَّ صوتي يضيع في الصخب المحيط بي، ولا أسمعه.