ليلة صيد الخنازير

Navigation

ليلة صيد الخنازير

قصة من تونس
Ines Abassi

إنه الصيف في جنوب الكرة الأرضية (وهو الشتاء في شمال الكرة الأرضية)، وفي شهر يناير تجمعهم جميعًا مجلة Literatur.Review، وتنشر قصصًا لم تترجم أو لم تنشر من قبل من شمال وجنوب عالمنا.

إيناس العباسي: شاعرة وكاتبة ومترجمة تونسية . من اصداراتها في الرواية، اشكل(2016)، منزل بورقيبة، نالت بها جائزة الكومار سنة 2018 . في القصة القصيرة هشاشة (2013 و2019)، في أدب الرحلة حكايات شهرزاد الكورية(2009 و2013).  في الشعر اسرار الريح حائزة احسن كتاب شعري تونسي (2004)، وأرشيف الأعمى (2007) حاصلة على جائزة الكريديف  للمبدعات التونسيات.
ترجمت عدة أعمال منها شجرتي شجرة  البرتقال الرائعة لخوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس (2017)ومهنة الأب لسورج شالندون (2021).

أراهم كل صباح في نفس المكان. الصبية الذين لعبتُ معهم كرة القدم في شوارع المدينة وعلى شواطئها، أصبحوا اليوم رجالاً. يمكن أن أصنفهم إلى مجموعتين: الباقون والراحلون. يسهل التمييز بين الفئتين، احتفظ الباقون بقصّات شعر شبيهة بقصّات شخصيات أفلام المافيا الايطالية، بينما احتفظ الراحلون عن البلاد بقصّات شعر شبيهة بقصات المارينز في الأفلام الأميركية.
يسميهم الناس: الذاهبون، الراحلون، المهاجرون، المتغربون. العائدون صيفا من أوروبا للتباهي بسياراتهم وزوجاتهم الأوروبيات. يسمونهم حين يديرون ظهورهم "غبّارة"، يتهمونهم بأنهم أصبحوا عبيدا للغُبار السحريّ الذي يُطيرهم ويرفعهم نحو الأعلى خلال أشهر قليلة ويحولهم إلى مدمني مخدرات، وفي أحسن الأحوال يصبحون وسطاء، باعة للغبار. أما الباقون، رفاق الطفولة والأزقة والمغامرات، فينظرون لأصدقاء طفولتهم بحسد. يفكرون بأنهم أذكى وأوفر حظا لأنهم رحلوا نحو بلدان أوروبا ليصنعوا مستقبلا ما لهم ولأطفالهم. في وجوههم يتعاطفون معهم ويشبهونهم بالطيور المهاجرة لكنهم ما إن يديروا ظهورهم حتى يُتمتموا بغيظ: 
"طمّاعين، مرتزقة يبحثون عن اللقمة الباردة والثراء السريع". 
كلما مرّ واحد من العائدين الموسميين متباهيا مثل طاووس وقد فتح الأزرار العلوية لقميصه عارضا قلادة ذهبية سميكة من عيار أربعة وعشرين. يُتمتم الباقون:
"باعة مخدرات، مرتزقة، غبّارة منايكة".
هناك دائما شخص يصرخ أول النهار أو آخر الليل في لحظة تشنج صادقة وأغلب الأوقات مفتعلة، فقط ليعطل سير أحد الطواويس مستفزا:
"ها ...هل أنت غبّار أم تزوجت عجوز طليانية وتتفاخر بفلوسها علينا".
ينخفض جناحا الطاووس لكنهما لا ينكسران. تبهت ألوان الريش تحت تأثير الكلمات قبل أن يتمالك الطاووس نفسه ويدافع. يندفع سيل الشتائم وتلتحم الأيادي وترتفع كراسي المقهى أو البار. تحدث الشجارات لأسباب مختلفة، عند خسارة لعبة ورق، عند رفض أحد المتغربين دفع ثمن مشروبات "القعدة" أو عند رفضه منح علبة سجائره لأحدهم. يتمرد الباقون عند عودة المهاجرين أول الصيف أو آخره عند اقتراب رحيلهم طائرين أو مبحرين نحو أعشاشهم الأوروبية. يُقسم المتغربون على عدم العودة نهائيا لهذه البلاد المُتخلفة، لهؤلاء الأصدقاء الحقودين: 
"برد أوروبا أكثر دفئا ورحمة من ناس البلاد، ما الذي حصل في الدنيا؟ لماذا تغيرت النفوس؟ لم أصبحت الحياة هكذا؟ لاستخراج معاملة ادارية قضيتُ الصيف اسمع جملة واحدة (ارجع غدوة)، ولولا أنني دفعت ورقة من فئة الخمسين دينار فوق الطاولة، أجل عيني عينك، مباشرة مع ملف معاملتي. لو لم أفعل لأمضيت عطلتي عالقا في الإدارات. لن أعود لهذه البلاد. سنوات قليلة وأتقدم للحصول على الجنسية.  سأحصل على الجواز الأحمر وأرتاح".
لكن المتغربين يعودون دائما بعد أن فهموا الدرس، يعودون مُحملين بهدايا لمن اختاروا البقاء. محملين بكرتوشة أو اثنتين من سجائر المارلبورو، تحتوي الكارتوشة الواحدة على عشر علب سجائر، تُشترى على عجل من المنطقة الحرة أو على متن الطائرة لتوزع لاحقا على المعارف في الحانات والمقاهي. يحصلُ الأصدقاء على هدايا أكثر قيمة، قنينة باستيس، قنينة بُوردو، فودكا أو ويسكي، قنينة عطر فاخرة وكريمات لمقاومة التجاعيد حول العينين من ماركة "نيفيا" التي قيل بأن رونالدو  يستعملها للحفاظ على شبابه، أدوات حلاقة من ماركة "جيلت"، قمصان مُقلدة لماركات ايطالية "أرماني وغوتشي" ألصقت في بطانتها لابيل "كتب عليه بخط رفيع "صُنع في الصين".
أنا كمال واحدٌ من الراحلين وواحد من العائدين أيضا. سافرت لأدرس ثم عدتُ.  عدتُ لأبقى وأعمل بشهادتي. عدتُ وحيدا بعد أن حققت جزءا من أحلامي القديمة. لم أعد بامرأة معلقة بذراعي، لم أفكر في أن"أورّق" وأبقى في أوروبا. عدتُ ببساطة لأن المسألة محسومة منذ البداية، فلا قيمة لنجاحي سوى في بلادي.
أرى الباقين صباحا على أحد أرصفة شارع الاستقلال، متحلقين حول طاولة عالية في كافيتريا "فينيسيا" على وجوههم نظرات متواطئة، كأنهم يخططون لأمر شبيه بالأمور التي كنا نفعلها في الأيام الخوالي. مراهقون، كنا نخطط لرفع فساتين وتنانير الفتيات ساعة خروجهن من المعاهد، نخطط للسهر والسكر معا على الشاطئ. نستأجر سيارة نحملها بعبوات "السلتيا" المُثلجة ونتخاصم على من منا يقود السيارة. فكلنا تعلمنا قيادة السيارات بطريقة أو بأخرى. هناك من تعلمها في ورشات تصليح السيارات التي عمل بها لتدبر مصروف الجيب، وهناك من علمه أبوه في الطرقات الزراعية المتربة خارج المدينة ليوفر ثمن حصص تعليم السياقة. يُحسم الأمر ببساطة، فغالبا ما يقود السيارة آخر واحد تحصل على رخصة القيادة. 
اتسعت "بنزرت" لأحلامنا وألعابنا. كانت جنة مراهقتنا، "بنزرت" البحر والرمل وسيقان السائحات الشقراوات والنهود الثقيلة للمتصابيات الألمانيات. لم نهتم بالسن! لم ننظر لوجوه طرائدنا إلا آخر لحظة! لا يهم عمر الوجه ولا تهم تجاعيده، مادام الجسد قابلا لتلقي فوراننا أو قابلا لتمهيد الطريق نحو أوروبا. لا شيء يهم ما دامت أجسادنا الفتيّة حية. 
أسترجع ذكرى أول سيارة تقاسمنا سعر تأجيرها. كنا ثلاثة أصدقاء ثابتين وكان كريم رابعنا صديقا يأتي ويمضي كما يشاء، بعدها أصبحنا أربعة وخامسنا فخري يحلم بالهجرة، فتشبث مثل أخطبوط بعجوز مَجَرية "أذبل" لها عينيه حتى أقنعها بحبه وتزوجها فورّقت له ورحل مثل فرخ نورس نعيقه عال يغطي على شكل جناحيه المنتوفين من الريش.
تقدمتُ في العمر مثلما تقدم الجميع من حولي. أصبح الصبيانُ والمراهقون أزواجاً وآباء يوصلون صغارهم لرياض الأطفال وللمدارس الخاصة التي انتشرت مثل الفطر في المدينة. تغيرنا نحن الـ "بزناسة" الباحثون عن الأوروبيات صيفا على شواطئ بنزرت وسوسة والحمامات وفي البارات والعلب الليلية. تغيرنا ونسينا كيف كنا. لكنني أظن بأن لا واحد منا نسي حادثة الكورنيش المُذهلة: مشهد التحام جسد المرأة بجسد حبيبها أو زوجها أو كائناً من كان، فلا أحد منا اهتم وقتها بالنظر إليه، وإن ذكرناه في أحاديثنا فبحسد. يومها ومنذ لمحنا المرأة التي كانت على الأرجح سائحة من إحدى بلدان أوروبا الشرقية، طفنا حولها مثلما تحوم الفراشات حول النار. استقلت المرأة على بطنها عارضة ظهرها لأشعة الشمس، وقد احتفظت بالقطعة السفلية فقط من البيكيني الأزرق الذي كانت ترتديه، ووقفنا ننظر إليها بأجساد مستنفرة.
كان المشهد المعروض أمامنا خرافيا. لم يكن فيلما نشاهده خلسة أواخر الليل. المرأة التي لا ترتدي سوى القطعة السفلية من البيكيني، هبّت فجأة وركضت دون سبب واضح. تسمرت عيوننا على عراء نهديها النافرين، علقت عيوننا لثوان على الحلمتين المدببتين. سال ريق باديس فرفع كمه ومسح فمه. لكزه نوفل فأغلق فمه. التصقت المرأة بجسد حبيبها أو زوجها أو كائناً من كان، قبلته بنهم أمام أنظار المصطافين المذهولة. 
تنهدتُ وسألتُ رفيقيّ:
"هل نحن في أوروبا؟"
كل صباح أرى رفاق شبابي العابرين والثابتين، أراهم بعد أن أوصلوا صغارهم، يتجمعون حول طاولة المقهى. يشربون قهوة على عجل قبل أن يتفرقوا كل واحد في اتجاه. أصبح لكل واحد منهم زوجة وطفل أو طفلان. امرأة كانت في الماضي زميلة المعهد أو صديقة الأخت، أو ربما ابنة الجيران "العاقلة" المحتشمة أو بنت اختارتها أمهاتهم لهم. لكل واحد منهم منزل في الطابق الأول يعلو البيت العائلي وفي أسوأ الحالات غرفة نوم في بيت العائلة. هدأ فورانهم أو كتموه فقد أصبحوا اليوم أرباب عائلات. توقفوا عن مضايقة البنات وإثارة قلق الأمهات بدمائهم الفائرة وطلب مصروف السهرات وثمن السجائر وملابسهم التي يجب أن تكون "على الموضة". توقفوا عن السرقات الصغيرة التي يرتكبونها والتي لا يُكتشف منفذوها وكثيرا ما كانت تُنسب لمجهول. ففي الماضي لم تكن هناك أجهزة كاميرا مراقبة مرشوقة أعلى المحلات، ومُعلقة على واجهات البيوت مثل عيون لا تنام لتتابع حركات اللصوص.
نمضي اليوم جميعا مثل سمك السلمون في نهر الزمن، عكس تيّار الشباب. أمضي متسائلا أين يختفي الماضي؟ وإلى أين يمضي بنا الزمن؟ الزمن الذي توقف للحظة في ليلة الصيد الشهيرة. ليلتها خرج رفاق شبابي مع جملة من خرج من الناس، خرج الصيادون وعمال الميناء والمنطقة الصناعية، ومثلهم خرج العاطلون عن العمل. خرجوا لصيد الخنازير التي تسللت من مخابئها في جبل"الناظور" مقتحمة شوارع المدينة بوقاحة. حمل الصيادون شباكهم وحمل الفلاحون معاولهم وحمل الصيادون الذين يمتلكون رخص صيد بنادقهم، حمل العمال تعب نهارهم، وحمل العاطلون عن العمل أحلامهم المؤجلة وشعورهم بالملل ورغبتهم في التسلية.
في الماضي اعتقد الناس أن الخنازير تتجول مرحة بعيدا عن شوارع مدينتهم. تخيلوا أنها تعيش في غابات "طبرقة" وغابات "جبل الشعانبي"، وغابات "منزل عبد الرحمان ومنزل بورقيبة"، وفي أسوأ الحالات تخيلوها تعيش غير مرئية في مكان ما في الكثيب الذي تغطيه أشجار متشابكة آخر الكورنيش، في نقطة ما بين "لا غروت" والـ"ناظور". لذلك تفاجئوا بخبر نزول الخنازير إلى شوارع "بنزرت". 
لا أحد منهم سبق له أن رأى خنزيرا أو حتى خنوصا. طيلة الأيام التي سبقت ليلة الصيد، تخيلوا الخنازير بأجسام ضخمة تغطيها طبقة كثيفة من الوبر الرماديّ. تخيلوا أنياب الحيوانات تلمع من شدة بياضها بينما ينسابُ اللعاب دبقاً من خطومها فينقل لهم أمراض قاتلة. استفاضوا في الحديث عن انفلونزا الخنازير مستعرضين معلوماتهم القليلة. تخيلوا ركلات خلفية من حوافرها ونطحات أمامية قاتلة من رؤوسها المتوجة بقرون مدببة وحادة. وقال الذين ادعوا رؤيتهم الخنازير بأنها كانت تنطحُ حاويات القمامة البلاستيكية الموضوعة أمام المنازل، تقلبها وتلتهم كل ما تجده بداخلها. تضخمت الحكاية، فاتَّهم السكان الخنازير بقلب حاويات القمامة الحديدية الضخمة التي تضعها البلدية في مفترق كل شارعين.تناقشوا ما بينهم قبل أن يحسموا أمرهم واستعادوا بجدية آيات تحريم أكل "الحلوف"، وهل يجوز صيد الخنازير أم لا؟ وأفتى إمام خمسينيّ بأن صيدها جائز باعتبار أن هدفهم تطهير مدينتهم. حسموا أمرهم واتفقوا على التجمع لصيدها ليلة 25 يوليو، ذكرى إعلان تأسيس الجمهورية التونسية.
في ليلة 25 يوليو تلك والتي صادفت ليلة جمعة، سُمع صوت إطلاق رصاص في "بنزرت". اعتقد الجميع بأن الطلقة استهدفت الخنازير، أحدهم صاح بصوت مستثار وصل الحلوف.  ألقوا من بعيد بشباك صيد السمك على الحيوانات الهائجة التي هربت باتجاه "غابة الناظور". لم يتبق في الساحة سوى حيوان واحد حاصروه مثل مجموعة صبيان تستعد لإطلاق رماحها لأول مرة على طريدة. واجهوا الحيوان المذعور، كان خنزيرا واحدا ووحيداً، حوصر في شارع لا منفذ له. ألقوا عليه بشباكهم وبدل أن يحكموا خناقهم عليه تراجعوا خائفين. ركض الحيوان متخبطا في كل الاتجاهات فتساقطت الشباك ماعدا شبكة صغيرة علقت على رأسه فلم يبصر طريق نجاته ما زاد في ارتباكه. أطلق نخيرا أرعبهم ودفعهم للهرب. رجل واحد لم يبرح مكانه. أشجعُ واحد بين الرجال، انحنى والتقط حجرا ورماه به. فتشجع البقية وفعلوا مثله. ضُرب الخنزير بالحجارة حتى مات.
مات الخنزير مرجوما. وهو نفس الخنزير الذي نسبت إليه في اليوم التالي أعمالٌ خارقة. قيل إنه مزق الشباك بشراسة، قيل إنه طاردهم حتى أبواب منازلهم ولمعت عيناه ببريق أحمر مرعب.  ثم سرعان ما نسيت الحكاية، وتُركت جثة الخنزير في نفس المكان الذي سقط فيه، لأنه نجس والمسلم لا يلمس نجاسة. تُرك ليُصلى تحت شمس يوليو الملتهبة. رغم الرائحة التي انتشرت في الهواء والذباب الذي حام فوقه وحوله، رغم اتصالات أرملة القاضي السابق، بهيجة السبعينية الجميلة والأنيقة كأنها خارجة من فيلم بالأبيض والأسود، قبعت الجثة في مكانها تحوم حولها سحابة من الذباب. 
لم تتوقف بهيجة عن الاتصال بالبلدية التي كانت تحولها بدورها إلى مكتب شرطة البيئة التي تعاود إحالتها بدورها إلى البلدية. كل إدارة تجيبها بأن نقل جثة خنزير نافق ليست من تخصصها. لم تتوقف أرملة القاضي عن الاتصال هاتفيا والزنّ مستعرضة كل ما عرفته من معلومات خلال بحثها في "غوغل" عن خطورة ترك جثة حيوان نافق تتعفن، وإمكانية انتشار وباء الكوليرا بين البشر. لكنهم لم يتحركوا ويرسلوا شاحنة نقل ليخلصوا السكان من جثة الخنزير المنتفخة إلا حين قادت بنفسها مظاهرة أمام البلدية متوكئة على عكاز، ورافعة علم البلاد.
في ليلة صيد الخنازير، توقف الزمن لحظة. تسلل فيها القاتل لأحد المنازل. لم ينتبه أحدٌ للظل الذي تسلل في الخفاء. استغل أحدهم حُمى الصيد الجماعية، لتصفية حساب قديم. ارتفعت يدٌ في الظلام وهوت بحجر ثقيل على رأس رجل في باحة بيته. ضاعت الصرخة في خضم الهرج والتدافع الذي حصل حين تحرك الخنزير وتراجع الناس خائفين. تهاوى الجسد على البلاط الاسمنتي للبيت. التصق وجه الرجل بشظايا قنينة ماء بارد سقطت من يده بينما تراخى جسده مستمتعا لآخر مرة بالملمس الخشن للحياة وللزمن.


إيناس العباسي –من المجموعة القصصية ليلة صيد الخنازير صادر عن محترف أوكسجين.2024