حريق القاهرة

Navigation

حريق القاهرة

قصة قصيرة من مصر
Ahmed Abdel Moneim Ramadan

إنه الصيف في جنوب الكرة الأرضية (وهو الشتاء في شمال الكرة الأرضية)، وفي شهر يناير تجمعهم جميعًا مجلة Literatur.Review، وتنشر قصصًا لم تترجم أو لم تنشر من قبل من شمال وجنوب عالمنا.

أحمد عبدالمنعم رمضان هو
روائي وقاص مصري من مواليد 1985.
ينشر قصصه في الصحف والمجلات منذ عام 2007.
نشر 6 مجموعات قصصية وروايتين. 
نار القاهرة التي ننشرها هنا هي من مجموعته القصصية ”عواء القطط ومواء الكلاب“، الصادرة عام 2024، والتي حازت على جائزة إدوار الخراط 2024.

  لم يكن يومًا غريبًا، لم تسطع الشمس من الغرب ولم تخرج وحوش من خلف السور، مجرد نهار عادي، حار وتقليدي، فمنذ بداية مارس بات الجو حارًا على غير المتوقع وكأن الأمر قد اختلط على الشهور أو أنها تبادلت مواقعها دون علم منا.
 حلمتُ ليلة أمس بحنان، ولحنان نصيب كبير من اسمها، رقتها لافتة وأنوثتها طاغية، رأيتها فى حلمي تجلس بأحد مقاهي وسط البلد، لم أميزه تحديدًا، وبالرغم من رقتها التى عهدتها إلا أنني رأيتها تشرب الشيشة بعنفوان ذكوري لا يليق بجمالها، تنفخ أنفاسًا متتالية من الدخان دون أن تنظر أبعد من موضع قدميها. أشرتُ لها فابتسمت، أخبرتني دون سؤال مني أن ساقها كانت مكسورة بالأسابيع الماضية، رفعت ساقها فى وضع أفقي وأشارت إليها، ثم أخرجت ورقة وقلمًا من حقيبتها الصغيرة ورسمت لي ساقها فى جبس مزين بقلوب وإمضاءات ورسوم للذكرى، فعلت ذلك دون أن تتوقف عن حبس أنفاس الدخان بصدرها الممتلئ، كنت أنظر إلى عينها المنصبة على رسمتها، فمها الدقيق وهو يبتلع أنفاس الشيشة، ثم صدرها المضطرب صعودًا وهبوطًا. أخبرتني أنها خرجت اليوم لأول مرة منذ إصابتها، لم تخبر أحدًا وقررت أن تكون وحيدة لتختبر ساقها في الشوارع التى اعتادت أن تطأها بالسنوات الماضية، قالت لي أنها لم تشعر بملمس الأرض كما اعتادته، ثمة شيء غريب، لم تعرف إن كان العيب بساقها أم بالأرض التي لم تعد كما كانت.
 

 عندما استيقظتُ، شعرتُ بقلق تجاهها، فأنا رجل تقليدي، أحب النساء الجميلات، تمامًا كما فطرنا الله، قد تصفني بالسطحي، هذا حقك، غير أنني لا أذكر إن كنت أحببت حنان تحديدًا أم لا، لا بد وأن محبتها تسربت إلى قلبي فى وقت ما، حتى ولو لم أدرك ذلك بوضوح. دفعني قلقي لمهاتفتها، لعل ساقها مكسورة بالفعل، اتصلت ولم ترد. كنت أصدق أحلامي، رئيسنا أيضا يصدق أحلامه، الجميع هنا يصدقون أحلامهم، ولكن قليلًا فقط من تتحقق لهم الأحلام، قال لي أحدهم ذات مرة أن أتوقف عن تصديق مناماتي، حيث أنني لست نبيًا أو قديسًا كى تتحقق لي، أجبته بأن أحلام عزيز مصر التي فسرها يوسف قد تحققت رغم كفره، فقال لي أن عزيز مصر كان حاكمًا، وأحلام الحكام تتحقق.
 

 قررت أن أذهب إلى وسط البلد، لعلني أقابلها، كان انفجارًا قد حدث منذ ساعات أمام مبنى دار القضاء العالي، ولكني ذهبت على أية حال، لم تعد الانفجارات تثير الرعب كما يفترض بها، باتت معتادة، بتنا ننظر إلى الانفجارات بطرف أعيننا، نمر بين دخانها دون أن نخلع سماعات الموبيل من آذاننا ودون أن نوقف الشاب خالد عن الغناء. 
 

 أثناء مروري بشارع رمسيس، ظهر إلى جواري قرد ضخم، قرد حقيقي بشعر كثيف وجسد ذي إنحناءة مميزة ومؤخرة حمراء، قرد كتلك التى تشاهدها فى الأفلام، فأنا لم أرى قردًا حقيقيًا منذ أكثر من عشرين عامًا عندما زرت حديقة الحيوان لآخر مرة قبل أن يغلقوها ويحرروا الحيوانات مطلقين سراحها بالشوارع. قفز القرد عاليًا ليلمس كتفي بيده المشعرة منبهًا إياي إلى وجوده، لم يكن محتاجًا لفعل ذلك فوجوده كان لافتًا بما يكفي، ولكنه بدا لافتًا لي وحدي دون المارة المجاورين. كنت قد قرأت في الصباح خبرًا عن هروب عدد من القردة من إحدى كليات الطب البيطري، ضحكت ولم أهتم، كل الأخبار صارت تثير ضحكي دون اهتمامي. التفتُ إليه، فابتسم، ليست ابتسامته كابتسامتنا، ولكنك تستطيع أن تميز بوضوح أنها ابتسامة، ثم جلت بنظري بين المارة فلم أجد بينهم متعجبًا، ملتفتًا، متأملًا أو حتى ضاحكًا، الكل يمشي بثبات محافظ على تقطيبة جبينه ونظرة تائهة رغم ثباتها، ويد تزيح من طريقها من يعترضها في خضم الأجساد المتصادمة ببعضها البعض.
 

 كان القرد أكبر وأطول من المعتاد، أو لعلي أقول كان أطول من تخيلي للقردة، يشبه تلك المتمثلة بفيلم كوكب القرود، حيث يتخطى طوله خصري، قلت هامسًا إنه يبدو كغوريلا غير مكتملة النمو، فضحك!! سألته إن كان يفهمني، هز رأسه وقال نعم، تلفتُ حولي متشبثًا بأمل أن يرى غيري ما أراه، إلا أن أحدًا لا يعيرنا اهتمامه، حتى ذلك الشاب المار بجوارنا والذي بالتأكيد سمع القرد وهو يتكلم، لم يبد أية التفاتة ولم تتغير أي من ملامحه. أسرعت شاقًا طريقي بين الجموع محاولًا الابتعاد عنه، ولكنه كان ماهرًا فى اختراق الزحام، يمر بين السيقان تارة ومن فوق الأكتاف تارة أخرى، لحق بي ومشى إلى جواري وكأنه ظلي، لم يتكلم مجددًا، مجرد خيال يسير إلى جانبي.
 

 فكرت أن أوقف أحد المارة المتجهمين سائلاً إياه إن كان يرى بجواري قردًا أم لا، ولكنني خفت أن يعتبرني مجنونًا أو مستهزئًا به ويصب غضب يومه علي، فصمت. تعلق القرد بساقي وأشار بيده إلى اليمين، ساقني خلفه فى اتجاهات متعرجة بين بنايات وسط البلد العتيقة، بدا وأنه يعرف خريطتها جيدًا، لا أعلم لماذا تبعته دون سؤال، ترددت نظراتي بين جسده كثيف الشعر وبين المارة غير المنتبهين، أشار إلى مقهى بأحد الشوارع الجانبية، قفز فوق أحد الكراسي الخشبية التقليدية، ودعاني لأجلس إلى جواره، صفق فأتى لنا القهوجي الذى لم يبد استغرابًا، مثله مثل كل من رآنا اليوم، طلب منه القرد بمودة تليق بزبون معتاد أن يأتينا بكوبين من الشاى، سكر بره. كان كل رواد المقهى الممتد بمنتصف الشارع يدخنون الشيشة حتى غطتنا سحابة من دخان ذي روائح ممتزجة، يجلس إلى يميننا مباشرة رجل ميت يجالس شابين مقتولين، كنت أعرفهم جيدًا، حضرت التعازي الثلاث، جلسوا دون أن يتبادلوا كلمة واحدة، فقط ينفثون دخان الشيشة، وعلى الجانب الآخر جلست فتاة جميلة وحيدة فى انتظار شاب لم يأت بعد، هو لم يأت قط، ولكنها تنتظر دون توقف، لم تكن فى جمال (حنان) ولكنها جميلة على أية حال. يقول بعض العابرين لنا بهدوء لا يتناسب مع قولهم أن حريقًا نشب بمبنى حكومي قريب، لم يتحرك أي من الجالسين من أماكنهم، سمعناهم ثم استكملنا حواراتنا، أو  بالأحرى استكملنا صمتنا. قلت للقرد إنني أعلم أن حنان قريبة من هنا، ولكنه لم يجبني.
 

 كانت رائحة الدخان القادم من حيث الحريق قد غزت جلستنا وامتزجت بروائح التفاح والأناناس والنعناع المنبعثة من الشيش، زاد تداخلهما من كثافة سحابة الدخان التى تغطينا، ولكن لم يدفعنا ذلك لأن نتحرك، لم نتحرك حتى بعدما سمعنا أن الحريق يمتد نحونا، سمعت صوتًا يصرخ من داخل المقهى "خليها تولع". القرد وحده اختنق وتقطعت أنفاسه، فانتفض من على كرسيه وهو يكح ويبصق. قبيل قيامه، شدني كي أصحبه، حاول أن يقودني خارج دخان الحريق المشتعل ولكننا لم نجد مخرجًا.
لا أعلم كم كانت أعدادنا تحت ستار الدخان حيث أن لا أحد منا يرى أبعد من خطوتين، نتخبط جميعا ونمشى في اتجاهات متعاكسة، تبادلنا الشتائم أحيانًا والركل الأعمى أحيانًا أخرى، واحدة فقط قالت لى "لا مؤاخذة" عندما اصطدمت بها، عرفتها من صوتها، حنان، سألتها ما الذي أخرجها من بيتها اليوم، قالت لي "ساقي كانت مكسورة، وخرجت لأجربها". ابتسمتُ، قرفصتُ وحملتها على كتفي مثلما أراهم يفعلون بالمظاهرات، كانت خفيفة مثلما توقعت، قبضت بيدي على ساقها التى لم تشف تمامًا، وأمسكت بيدي اليمنى القرد الذى تعرّف وسط الجموع على أحد أصدقائه الهاربين، سرنا نحن الأربعة متشابكين باحثين عن مخرج من تحت الدخان. لا أعرف إن كان آخرون قد انضموا إلينا أم لا، ربما أصدقاء لحنان أو للقرد أو أصدقاء لأصدقائهم، إلا أنني لم أشعر إلا بجسد حنان الطري فوق كتفي، ويد القرد الخشنة فى يدي، ورائحة الدخان تحيطني، وضبابه يحاصرنا، يخنقنا ويعمي أبصارنا.