برياني
إنه الصيف في جنوب الكرة الأرضية (وهو الشتاء في شمال الكرة الأرضية)، وفي شهر يناير تجمعهم جميعًا مجلة Literatur.Review، وتنشر قصصًا لم تترجم أو لم تنشر من قبل من شمال وجنوب عالمنا.
علي الشعالي، كاتب وشاعر وناشر وناشط ثقافي إماراتي. أصدر المجموعات الشعرية:
- نحلة وربابة، وجوه وأخرى متعبة، للأرض روح واحدة، دلّوني على الكهف،و العشب يشبهنا والغيم.
صدرت له رواية "الحيّ الحيّ". ومجموعة مقالات حول الثقافة والنشر تحت عنوان "حجرات ذات نوافذ"، فضلًا عن مجموعة قصصية بعنوان "حيوات بنكهة الرمان" والتي اخترنا منها هذه القصة "برياني"، ويعمل الشعالي حاليًا على رواية بعنوان "اسمي عليا وهذا أبي".
وصلت أعماله للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، وحازت جائزة العويس للإبداع الأدبي، وقد منح لقب الشخصية المكرّمة من قبل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي – حاكم الشارقة، في مهرجان الشارقة للشعر العربي للعام 2024.
ترجمت مجموعته الشعرية "للأرض روح واحدة" إلى العديد من اللغات العالمية. شارك في أمسيات ومهرجانات أدبية، كان آخرها البرنامج الدولي للكتابة في جامعة أيوا الأمريكية لعام 2023، وبرنامج زمالة الإمارات للآداب التابع لمؤسسة طيران الإمارات للآداب للعام 2024.
أسس الكاتب مجموعة الهدهد للنشر والتوزيع عام 2011، المتضمنة دار الهدهد للأطفال والناشئة، ودار اللوهة للكبار، ومكتبة فلامنجو.
يتطاير لمسمعي من فترة لأخرى رذاذ الغيرة وأحاديث منافسيّ الحامضة عن أرسلان المهاجر، الميكانيكي ذي الأكفّ المهبّبة والأصابع المزيّتة، الشاب الأفغاني الذي اختارته مجلة "المطبخ" -رغم ركاكة لغته الإنجليزية- ليكون شخصية نوفمبر، وأفردت له ثماني صفحات لحوار حول مسيرته، ونجاحه في تقديم واحد من ألذّ الأطباق في جنّة الفنون والعمارة والمتعة؛ نيويورك، ومنح اللذة لسكّانها المتعبين أبدًا، كما لزوّارها المشرئبّين للجديد.
لا بأس.. فليمضغِ المنافسون لـحمـي الحيّ قدر استطاعتـهم، لـحمـي المرّ، فلست بمُنكِرٍ تاريخي، نعم.. ساعدت أبي في إصلاح السيارات في بلدي لسبع سنيـن، ثم دفعت جزءًا من تركة أبي إلى المهرّبيـن لييسّروا لي الانتقال من نقطة مضيئة إلى أخرى على خريطة العالم. عند وصولي التفّاحة الكبيـرة، وقبل أن تجفّ ثيابي من المياه المالـحة جُبت الشوارع بحثًا عن عمل، ثم صرت أجيرًا بالمياومة في ورشة لإبدال الإطارات وترقيعها. لكلّ إنسانٍ ماضٍ، إمّا أن يواريه بالقصص المختلقة، أو يسند ظهره إليه، وأنا أختار الثانية، فلم يكن خيالي يومًا قادرًا على ابتكار الحكايات. أنا من أنا، لا شيء آخر، وأقول ما يتبادر إلى ذهني دون مواربة، ولو تسبّب ذلك في إلحاق الخسارة بي، وهذا طبعنا في أفغانستان.
ورغم ذلك كلّه فأنا اليوم طبّاخ شهير، ألبس قناع اللباقة، وأُدعى لإلقاء المحاضرات المترجمة فوريًّا، وتقديم الورش، حيث أعلّم محبّي الطبخ كيف يتبّلون الكباب ويشوونه دون أن يخسر عصيره، وأعرّف أرواحهم على آسيا ولو عن بعد، كما أعمل معهم على أن نعيش اللحظة ونلتذّ بها، فالطبّاخ الماهر والذوّاقة الخبير لا يهيم بأفكاره شرقًا وغربًا في حضور الطعام، عليه أن ينسى كلَّ شيء عدا طبقَه.
لكنّ نيويورك لا تمنحك تلك اللحظات كثيرًا؛ أعني لحظات الصفاء، وإن كان ثمة ما تعلّمته منذ صعودي إلى أمريكا مهاجرًا، فهو أن أظلّ يقظًا، وأقرأ مَن هُم حيالي، وما هو حولي، أن أُبقي عينًا واحدة -على الأقل- مفتوحة وأنا نائم.
كما أيقنت ضرورة ألّا أعتمد على المنتجات الأمريكية لتحضير البرياني، فالنكهة بنت أرضها. وهنا، في دولة الأحلام يمكن الحصول على الثوم المجفّف بجودة مقبولة، والبصل الأحمر بنكهته الفاضحة، والفلفل المتحدّي للخياشيم، والبطاطس بأنواعها وأشكالها، والبقدونس والكزبرة كذلك بنكهات صريحة، إضافة إلى الذرة الحلوة، والقمح المطوّر لأيدي الخبّازين، وبضعة حبوب أخرى، لكنّ البرياني الأفغاني لا يحفل بأيٍّ من ذلك، ولا يكترث به البتّة، وكي أُعدّ الطبق كما كانت تجهّزه أمي لغداء الأسرة يوم الجمعة في كابول عليّ أن أمزج الأرز البسمتي ببهارات، محمولة بعناية مُرضِع بوليدها، من هناك، من آسيا، حيث للهيل طعمٌ ورائحة لا تخطئ طريقها إلى القلب، والقرفة ليست أعواد خشبٍ لتزيين الأطباق، ومثلها القرنفل والكمّون، هناك، حيث للأعشاب والتوابل جواهرُ توافق أسماءَها.
أتمّ في نوفمبر المقبل عامي التاسع عشر في مانهاتن، ما إن تتوشّح المدينة بالأحمر والألوان النارية في حدائقها حتى أعلم أن العمر نقص سنة أخرى. لم يكن قرارًا صعبًا أن أغادر مسقط رأسي مغامرًا، فلم يكن ثمة ما أخسره بعد ذهاب أسرتي، كيف وقد دفنت والديّ بيديّ الخشنتين هاتين في غضون ستة أشهر. توفّيت أمّي بذات الرئة، ولم يستطع العلم أن يعينها على المقاومة، ظلّت تحاول القبض على الفراغ بفكّيْها، تلتهم الهواء كأنها سمكة أخرجوها توًّا من الماء، وحينما استطعنا توفير جهاز تنفّس بعد لأي، كان جسمها قد تعوّد على الفقر، فعجز عن التعامل مع الوفرة، وتسمّمت من فرط الهواء، ماتت غرقًا بالأكسجين وهي على سريرها.
ذاب أبي كمدًا عليها، ثم هوى كشجرة جافّة، فانغمرت وأخي عبدول في الخسارات، كأن الشمس انطفأت وغزانا صقيع لا يرحم. ذوى أبي آخر أيّامه كما تذوي حبة المشمش، فاستطعنا أنا وثلاثة رجال فقط أن نحمل نعشه من السيارة المتوقّفة في الزحام إلى مكان الحفرة العميقة؛ قبره، وهناك أسلموني جسده ورجلاي في الطين، حيث سيرقد على شقّه الأيمن، فأنزلته دون مساعدة من أحد إلى سريره الأبدي، رحل خفيفًا.
أمّا نجيب الله -أخي الأقرب- فانتقلت روحه إلى السماء قبلهما، لا بالحزن ولا بفقر الإمكانات، وإنما بترف العلم الذي يغذّي آلة الحرب، ولا أظنّ أنّ جسده بقي منه ما يكفي ليُدفن، كيف يصمد الإنسان بهشاشته المدويّة بينما تنفضّ الهضاب الصخرية إلى شظايا؟! كانت أفغانستان كلّها تتزلزل، فقد ألقت الجيوش القادمة من بعيد قنابل تزن الواحدة منها بضعة أطنان لتطهير الجبال والوديان من أعداء المدنية والحضارة. لم يكن نجيب محاربًا أصيلًا، ولا مؤمنًا بمبدأ ما، أو منافحًا عن قضية، ولم يلتحق بتلك الفئات الضالّة إلا سأمًا، هكذا أسرّ لي في هدأة الليل قبل أن يحمل حاجياته ويخرج من البيت إلى الجبل، مشيًا في الطرقات المكتظّة بالأشباح. اعتدنا وأهل قندهار لسنواتٍ خشونةَ الأصوات وفظاظة الوهج من جرّاء الحرب، أما نجيب ومن هم مثله فلم يستوعبوا الأمر، ولم يتصالحوا مع أفغانستان في شكلها الجديد، أبَوْا، فتفتّتوا. وعندما علم أبي بخبره صامَ عن الكلام، إلى أن حزمنا أمتعتنا، وانتقلت أسرتنا إلى كابول، ذبنا في زحام المدينة.
ذهبوا جميعًا، هاجروا للأعلى، فلم يبق لي في العالم إلّا أخي الأصغر مني بخمس سنين؛ عبدول الذي حظي بدلال أمي كاملًا غير منقوص، ووقع عليه الاختيار ليغتبقَ من التعليم في المدارس النظامية، أشارت إليه بوصلة الأسرة، الصغير الذي تُعقَد عليه الآمال لتغيير الواقع، ويُعدّ إلى مستقبل مغاير، بينما اصطفاني أبي لمساعدته في ورشته، ربّما سعيًا منه لردّ شيء من كرامتي، ولملمةِ نثارها بعد رسوبي في الدراسة، "الأحرى بنا أن نعلّم هذا الولد صنعة، ليأكل من كدّه"، هزت أمي رأسها بالموافقة.
تعلّمت باكرًا ميكانيكا السيارات وأسرارها، وفي وقت قصيـر صرت واحدًا من المعتمد عليـهم في الكراج، وبعد أشهر قلائل لمحتُ أبي من بعيد يشير إليّ ويبتسم.
صار يكلّفني بشراء حاجيات البيت، ويأخذني معه لاختيار قطع الغيار، ويصطحبني إلى صفقاته مع الحدّادين وتجّار الخردة والبدائل المستعملة، "اسمع وتعلّم".
ومع هذا كلّه شعرت بالقصور في حياتي؛ فبالمقارنة بذكرى نجيب التي شاعت كرائحة الصنوبر المحمّص في بيتنا والمنطقة، ثم نبوغ عبدول في العلم، وبلوغه الجامعة بسلاسة، كأنّما سكّين في سمن، لم تبدُ المهنة اليدويّة والقيام بالكراج صفقة رابحة لي وقتها، لكنها -والحق يقال- علّمتني شيئًا أو اثنين عن التدبير، والرفق بالأشخاص والأشياء، والتعامل مع الزبائن بحكمة، والرضا بالنصيب. ولحسن حظي أنني لم أرث من أبي مهنة كالخياطة أو الزراعة، فلا صبر لي على أعمال مثل تلك، بل أحبّ أن أرى نتيجة عملي سريعًا، أصلح السيارة فيأتي صاحبها لينطلق بها مبتهجًا، والطهي للذواقة كذلك، سريع وتبهج به زبونك عن قريب.
بعد رحيل والديّ ونجيب صار البيت موحشًا، يدخل عبدول ويخرج كأنني شبح، فلا سلامًا يلقي، ولا كلامًا يجاذب. بالنظر إلى الماضي.. وددت لو أنني اختلقت خصامًا ما فنتجادل أنا وعبدول حول عقدته لساعات، كما كنّا نفعل في سابق عهدنا، كطواف بنار موقدة إلى أن تخمد من تلقاء نفسها.
عوّلت خائبًا أن يفهم عبدول -المتفوّق دراسيًّا- أن ما حدث بيننا صغارًا من غَيرة وتنافس لا يجب أن يمنعنا من التمتّع بعزوة بعضنا كبارًا، لا سيّما في ظروف مثل هذه، لكنّ أخي النبيه لم يلتقط الفكرة. فلم نتخاطب، ولا مرّة واحدة، فتعمّقت غربتي وأنا ما أزال في وطني، شعرت أنني انتقلت بروحي إلى مكان آخر، بينما يكابد جسدي الحياة في أرضه، وعندها أيقنت أنّ المهاجرين لا يُقتلعون اقتلاعًا، وإنما تصهرهم الحياة في بلادهم، فيسيلون كالماء عبر الأراضي إلى وجهة غير مسمّاة، يتيهون.. إنما عن قصد.
***
كنت أجلس محنيَّ الظهر في نادٍ ليلي أطفئ حسرتي، وعلمت من "رحمة"؛ صديقة عبدول، فنّانة الاستعراض الباهرة، أنه هاجر. سبقني كعادته ذلك الوغد المخاتل، غيّر اسمه إلى "كيفن"، ورحل غربًا، إلى بلاد يظلّلها سحاب غامق، حيث للفصول الأربعة تجليّاتها على الشجر والمدر. بعد أشهر اتصل بي من ألمانيا، كان صوته باردًا، لا يشبهنا، يتكلم لكنه لا يقول شيئًا، شعرت أنه يمطّ الحوار ليختبر شيئًا داخله لم يحسمه بعد، "لم أمت بعد كي تخاطبني هكذا يا عبدول..."، ما زاد أن تنهّد، ثم ختم المكالمة الفارغة بمقاطعتي: "اسمع، اسمع.. أرسلان، نحن كما نحن، ولن نتغير. كما أن صوتك يذكّرني بكل ما أريد أن أنساه. اعذرني، ليكن هذا آخر اتصال...". عبدول هو هو، لم يفشل قطّ في تجريعي المرارة، ولعلّه ظنّ -بما سبكته أمي في معدنِه، ومساندتها غير المشروطة له رغم حماقاته المتكررة في الملاهي الليلية- أن من حقّه أن يقسّم علينا ألمه، ويشرب على الباقي كؤوسَه. وقد حملنا عنه ومعه على طول الخطّ، أما وقد ذهب أهلي جميعًا بأكتافهم وبقيت وحدي، فقد قررت ألّا أستمر في تدليله نيابة عن الموتى. ولـمّا أحسّ عبدول منّي الخذلان.. تحزّمَ بشهادته الجامعية وبراعته في تعلّم اللغات وتعلّق بذيل القوافل، رحل كمن سبقوه، نجيب، وأمي وأبي، رحل في الأرض لا إلى السماء، وتركني وحدي.
لست ببراعة عبدول في تعلّم اللغات، ولم أغير اسمي عندما جئت إلى عاصمة العالم. في نيويورك لديّ أصدقاء من الألوان والأديان كلّها، ولم أرَ حاجة لاختصار اسمي، أو ترويضه للّسان الغربي بأيّ شكل؛ فالألسن هنا مدرّبة وقديرة. أرسلان وكفى، ماذا يمكن أن أحذف من اسم كهذا؟ بل إني عمدت إلى الإضافة إليه عوض اختصاره، حلّيته بياء في آخره لأنشئ سَجعًا مع وجبتنا الشهيرة، أرسلاني برياني. وعندما انتقلت من الكشك إلى مطعمي في الجادّة الخامسة وسط المدينة وافقني صانع اللوحات في ذلك القرار، فالنهاية الصوتية المنسجمة تجعل الكلمتين تتراقصان، كأنما في جولة تانغو، بحسبه، ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف بدوره علامة تعجّب بلون أحمر، وكتب اسم المطعم بخط ليّن، خالٍ من الزوايا، زعم أن اللوحة بذلك ستلفت أنظار المارّة، وخاصة من الشباب: "أرسلاني برياني!"، وقد كان، فروّاد المطعم أكثرهم دون الأربعين.
في البداية.. أنشأت الكشك بما بقي من حصتي من الورث، كان معاوني شاب أفغاني، صغير السن والحجم، قليل الكلام، لا أعرف كيف كانت لتصير مسيرتي في الطبخ بدون "مِير"، فهو صبور مع الزبائن، قدير في حلحلة المعضلات، حمول على مزاجي المتقلّب، آمره أمام الناس بالإسراع فلا ينطق بكلمة، وأنهره عن الانشغال بهاتفه، ثم أكلّفه بتنظيف المكان، داخله وخارجه، فينفّذ كأنه في ميدان عسكري. أذكر كذلك أنني لم أبخل عليه بقسوتي التي تشرّبتها من حياتي في الأراضي الوعرة؛ ألومه عندما يتلكّأ، وإن أخطأ في حساب الباقي أعاتبه، "مير.. نحن بحاجة لكل دولار لننتقل من قنّ الدجاج هذا إلى مطعم حقيقي"، يهزّ رأسه، ويبتسم فيما يظهر لي استبعادًا للفكرة، كان ذلك في البدايات، أما تالي الأمر فرأيت الإيمان بنجاحنا ينمو في صدره كعشبة جبلية، قوّتها تكمن في عطشها، يغفو على كرسيّه بين أوقات الذروة ليتقوّى، وإذا لكزته بأطراف أصابعي انتفض كطيرٍ مبتلّ وانطلق، يسكب الأرز في الأطباق، يضيف إليه الزبيب، والبصل والكازو؛ خلطتنا الخاصة، ويضع علبة الزبادي الصغيرة جوار هريسة الفلفل، ويسلّمه للزبون بيديه. يظلّ هذا ديدنه إلى منتصف الليل، ثم تنحسر موجات الزحام، فنعود نلتقط أنفاسنا، ونحسب غلّة اليوم، وأعطيه حقه، فيقبّل الأوراق المطويّة ويضعها في جيبه.
***
ساعة تقريبًا.. هذا مقدار ما تستغرقه رحلة المترو من الحديقة المركزية في مانهاتن إلى مقرّ سكني في جزيرة بروكلين، ساعة لا أكثر، نقطة صغيرة على خط الزمن، تسبقها خطوط ممتدة من التنقل بين البلاد، رحلة أولى للوصول إلى إسطنبول، ومنها إلى أيرلندا، عبورًا إلى جامايكا، ثم إلى هنا. كنا نغلق أنا ومير الكشك بعد غسله، وتكييس النفايات والتخلّص منها، ونعود إلى ما نسمّيه البيت تجوّزًا، غرفة تحوي سريرين، الواحد فوق الآخر، ونستخدم حمّامًا مشتركًا مع زملائنا في المبنى.
وأنا في المتـرو أحجب عن أذنيّ احتكاك المعادن بالاستماع إلى "نُصرت فتح خان"، أنصت إليه خالي الذهن، فتواشيحه مفعمة بنكهة أفغانستان، أكرّرها تداويًا من الحنين، ولا أملّ من أغنيته "مَسْت قَلندر"، في ضجيجها المنظّم أنتقل إلى كابول، أقف في أسواقها الشعبية، وأشتمّ روائح الفواكه، ودخان الشواء، وتعبرني مشاهد من الماضي، يصير قلبي مفترقَ طرق، ومعبرًا لتيّارات الذاكرة، لكني أعرف متى عليَّ أن أتذكّر، ومتى أنسى، هذا فنّ المهاجرين جميعهم، ورياضتهم الأثيرة.
يعرف من حولي أني لم أكن يومًا متديّنًا ولا وطنيًّا، نشأت ميكانيكيًّا فحسب، لا أهزّ رأسي طربًا كالدراويش، ولا أطبّل أو أتغنّى بالشعارات، فنجوت، وها أنا أقضم تفاحة العالم بأسنان صحيحة، وأقدّم البرياني عربون صداقة وسلام، أليس هذا فعلًا وطنيًّا؟
اليوم في نيويورك قصير، بل إنّ سنواتي التي تقارب العشرين مرّت كأنها رشفة ماء. في هذه المدينة تتسارع الريح بين المباني وتخفض السماء من إضاءتها سريعًا، تستيقظ فجرًا فتنبض الأرض، يحرّك ضبّاط المرور أذرعهم لتنظيم السير المحتشد على التقاطعات الكبيرة، ثم لا تلبث المسارح أن تعمر بالرومانسيين مساءً. نهر الحياة هنا أرعن، وطائش، لا يبطئه لديّ إلا أقاويل الطبّاخين الآخرين عن مغالاتي في نثر الزبيب على البرياني إرضاء للذائقة الباحثة عن السكّر هنا في أمريكا، ويعدّون ذلك تلاعبًا، لكني لم أكن لأعبأ بكلام المنافسين، فقد علّمني أبي أن أفتح عينيّ وأصمّ أذنيّ، وكلما كنت أشكو له تمرّد الحرفيّين في الكراج، وكيدهم ببعضهم وبي.. ذكّرني بنجاعة التغابي مع الحاقدين والماكرين.
من مطعمي على الجادة الخامسة قبل الحديقة المركزية بمربع واحد.. كنت أرصد نيويورك في تجلياتها، أشاهد الموظفين المتسلّلين من مكاتبهم، وأخمّن هويّات الناس ومصائرهم، أشير إلى "مير" وهو منهمك بمحاسبة الزبائن، ونتغامز، "مهرّبون تائبون"، نميّزهم بحقائبهم الباهظة، وأولئك "سائحون سذّج"، وتصطاد أعيننا الرفقاء الذين يقبّلون بعضهم كالعصافير في الزوايا المنسيّة.
الأفغان وإخوتنا الآسيويون هنا يتناحرون على البقاء في سوق المطاعم والترفيه، إنه الصراع الأزليّ الذي يصبح على أشدّه في المدن الكبيرة، لكني مع ذلك أشعر أني رجل حظيظ، فما زلت حيًّا بشكل ما، ولو كنت بعيدًا عن وطني، وأنعم بصداقة مبشّرة مع سافينا الجميلة، نتجادل أكثر الوقت لكننا سعداء. وقد هندستُ حياتي كما ينبغي لرجل مسائي، ولحسن الطالع أن الوجبة التي أقدّمها لا تؤكل إلّا بعد منتصف اليوم، أبدأ العمل والشمس فوق المباني، ولا أشغل نفسي بقولهم إني دخيل على المهنة، فلقد صنعت قَدَري بنفسي، مع علمي أن الأحاديث الرخيصة تتكاثر كالفطر البرّي في الأوساط الأفغانية في نيويورك عن أرسلان الذي جاء بمصحف صغير في جيبه الأيمن، ومائة دولار في حافظة جلدية مهترئة تحوي صورة أبيه، ورخصة قيادة لا قيمة لها هنا، عن أرسلان الذي نجح في جعل الناس يحتشدون أمام كشكه عصرًا، عندما تشرع المدينة اللعوب في بسط غنجها للزائرين والمقيمين، بالموسيقا المصاحبة للاختناقات المرورية، والأضواء المنبعثة من الشاشات العملاقة، يغترفون الأرز المبهّر بملاعق بلاستيكية، ويحشون أفواههم وهم يمشون بقلقٍ فائض.
***
في المطعم اليوم رجلان يبتسمان كثيرًا، رأيتهما من قبل، أكثر من مرة، وأنا لا أغفل عن مثل هذه الظواهر، ليسوا جواسيسَ للمطاعم الأخرى، فأولئك يأتون مع صديقة مزيّفة، ويكون الحوار بينهم فاترًا، يعانون في تزجية الوقت لتأدية المهمة، يتقمّصون دور الأزواج لتبدو الزيارة طبيعية، ويطلبون جلّ الأطباق على القائمة ليصوّروها. يتذوّقون لـمامًا، ويخرجون بغنائم لأسيادِهم. أمّا زائراي هذا المساء فليسا من ذلك الصنف، فهذان الرجلان يظهر من طريقة تعاطيهما مع بعضهما البعض، وتعاملهما مع النُّدل أنهما موظفان، يعملان لدى جهة رسمية لها أعراف وأنساق، أرى ذلك في طريقة جلستهم، وتشدقهم، والأوراق التي لا يحرصون على إخفائها، ولهذا يمكنني الجزم أيضًا أنهما ليسا عملاء استخبارات ولا ضبّاط مباحث، وأنا في الحقيقة رجلٌ مملّ؛ أتحرّك كالمكّوك من مطعمي إلى بيتي الجديد على بعد مربّعين، ثم أعود في الصباح التالي، وهكذا دواليك. أكاد لا آخذ أسبوعين رخصة في العام بأكمله، وهو خلافي الرئيس مع سافينا، لكنها غريزة الميكانيكي المكافح، فماذا أنا فاعل بها؟ ولهذا أعلم يقينًا أن رجلًا مثلي لا يستحق ساعات التحرّي، ولا أوراق التقارير، الأجدر إهراق الحبر على رجالٍ من جلدتي حديثي العهد بالمكان، ما زالوا يلبسون السراويل والقمصان من القارّة الهندية، أما أنا فأشعر أنني اندمجت إلى حدّ مقبول، وفيما عدا اللغة التي هزمتني أبدو لكثيرين مهاجرًا وفيًّا للتجربة.
أنا ابن الجبل الذي يعرف كيف يجب أن تُعامَل الذئاب، ولن يفلت الرجلان من قبضتي الليلة قبل أن أعرف من هما. مررت على بضع طاولات في تحرّك تكتيكيّ نحوهما، أردت ألّا أُظهر التحفّز، حيّيتهما واقفًا كأنه عبور إلى ما بعدهما: "مرحبًا بكما في أرسلاني برياني!"، لم يتباطآ في الردّ، "أهلًا ومرحبًا سيد أرسلان، نحن من معجبيك، لكنّنا هنا نيابة عن منظمة لتصنيف المطاعم، ونودّ أن نتحاور معك، فهل تسمح؟"، "على الرحب والسعة، أي مؤسسة تعنيان؟"، "ميشيلان. وقد رُشّح مطعمك لنيل نجمتين، والأمر قيد التنفيذ، وما هذه إلا شكليات لوضع الأختام"، عندها استأذنتهما بالجلوس معهما، اضطرارًا، فقد انتظرت هذا اليوم طويلًا، لم أكن أعرف هذه الجهة قبل انتقالي من الكشك، ولا اهتممت بها، لكني لما رأيت نجومها تزيّن المداخل والمواقع الإلكترونية لمطاعم المنافسين أردتها لنفسي كذلك.
ظلّا يسألانني عن الأطعمة الأفغانية والشرقية، مكوناتها وطرائق تحضيرها، وأجبتهما بسخاء. ثم رأيت أن الحوار أخذ منحًى شخصيًّا، ولم أمانع، قدّمت لهما عصير الرمّان، "تفضّلًا، ماذا بعد؟"، "شكرًا شيف أرسلان، على صبرك وتعاونك، هذه هي المرحلة الأخيرة، وبعضها للتعارف والتوثيق، لا أكثر. هلّا أخبرتنا عن نشأتك"، "هربت شابًّا من البؤس في بلدي والإقليم، وقطعت عهدًا أن أنشر السعادة بين الناس، بدءًا بنفسي، والأكلُ الطيب من السعادة، أليس كذلك؟"، "بلا شكّ. ولماذا أنت هنا، في نيويورك، على وجه الخصوص؟"، حاولت أن أستدير على هذا السؤال، لكن الدّم الساخن تدفق إلى رأسي الأفغاني الصلب، وقلت ما يجب أن يقال: "نحن هنا، يا سادة، لأنّكم هناك".