الرسالة الثامنة عشرة: سيجارة بين موتين
وبمناسبة الكارثة الحالية في الشرق الأوسط، قمنا بدعوة كتاب من المنطقة لكتابة قصص وقصائد ومقالات للفت الانتباه إلى واقع مختلف عن ”الأخبار العاجلة“ من المنطقة.
كيف أنت يا لمار، سمعت أنك نجدين صعوبة في التأقلم مع كل ما يحدث في غزّتك التي تحبين، ونحن هنا نجد صعوبة في التأقلم، أنا بوجه أدق أواجه هذه الصعوبة خاصة مع دخول الحمام، تعرفين أني أعاني ولزمن طويل من مثانة عصبية وصغيرة، ولذا يتوجب علي الدخول للحمام أحيانا لبضع مرات في الساعة الواحدة، تخيلي معي المشهد إذن، ربع ساعة وانا أتلوى أمام باب الحمام وخلف طابور من السيدات والبنات بعضهن يأتين هنا لمساحة الخصوصية التي ليس بإمكانهن توفيرها إلا في الحمام، بدأت الاعتياد على صوت القصف وعلى أصوات الناس في المستشفى لكني لم أستطع التعود على افتقاد خصوصية الذهاب إلى الحمام والمكوث فيه بعض الوقت طلبًا لمساحة من الخصوصية خاصة في مثل هذا الظرف، الطابور تقف فيه نساء من مختلف الطبقات، الأجيال لكن المميز فيه أنه عادة ما يمتلئ بفتيات صغار يقفون مثل الذاهبين إلى رحلة، قد تظنين أن الطابور يمتد إلى خارج باب الحمام لكن الواقع أن كل هذه النساء والفتيات يقفن داخل الحمام أمام بابين مغلقين بشكل شبه دائم في مساحة لا تتجاوز متران مربع وفي درجة حرارة تصل الثلاثين داخل المستشفى أو هكذا كنت أشعر بها، تصطف النساء هناك ويتسلين ببعض الأحاديث أثناء نتف شعر الحاجب أو تمشيط شعورهن المختبئة أربع وعشرين على أربع وعشرين أو غسل الملابس في الحوض الوحيد أو الوضوء، ولكِ أن تتخيلي يا حبيبتي شكل الأرضية والمياه تطفو فوقها مع بواقي صابون وشعر والكثير من الرمل والغبار.
ذات يوم وبعد محاولات ضبط النفس كي أقلل من مرات دخولي للحمام لم أوفق فيها هذه المرة ذهبت على عجل وامتدت يدي إلى باب الحمام كي تفتحه لكني فوجئت بيد تغلقه وفتاة تقف على الباب كأنها حارس مقبرة تمنعني من الدخول، قلت لها اريد الدخول فأخبرتني أن أمها بالداخل تتوضأ، ثار الدم في عروقي وقتها وأردت فتح الباب مجددًا وانا أخبرها عن حاجتي الماسة للدخول الان وأن الوضوء في الحمام لا يمنع ان أدخل لقضاء حاجتي، فقبضت على يدي بشدة وهنا لم أستطع الاحتمال، أي وقاحة هذه وأي جرأة تعطيها هذه الفتاة لنفسها في تحديد من يدخل ومن يمكنه التبول على نفسه واقفًا، وهذا أدى إلى عراك لفظي نتج عنه دخولي عنوة إلى الحمام، رغم أن التواجد في الداخل يبدو مخيفًا في أغلب الأحيان حيث قوة صوت القصف تتعاظم هنا وهناك دائما خوف من أن يحدث شيء وأنا في الحمام خاصة وأن أحدى النساء أخبرتني أنها كانت تقف على التواليت مخرجة رأسها من نافذة الحمام كي تدخن سيجارة غير أنها فجأة وجدت نفسها ترتد بعنف للداخل إثر قصف قريب وتصطدم بالباب.
فاتنة الغرة كاتبة من أصل فلسطيني لها خمسة دواوين شعرية، تُرجمت ثلاثة منها إلى الإسبانية والإيطالية والهولندية. وهي صحافية وإعلامية معروفة في فلسطين، تقدمت في عام 2009 بطلب لجوء إلى بلجيكا، حيث تعيش منذ ذلك الحين. وفي عام 2016 حصلت على الجنسية البلجيكية.
الحمام أيضًا يمكن أن يكون فسحة لتدخين سيجارة يتعذر تدخينها في ظرف يبدو التدخين فيه خاصة للمرأة أمر مستهجن في وسط مجتمع محافظ وحرب تستعر في الخارج، كنت أحدث زوجة أخي عن مشكلة مثانتي ومعاناتي في السيطرة عليها حينما أخبرتني عن تمرين بسيط كانت تقوم به مع ابنها أحمد حينما كان يعاني من هذه المشكلة في صغره وأن هذه الطريقة ساعدته في التغلب على هذه المشكلة، حينما تجلسين للتبول لا تتركي كل البول يتدفق مرة واحدة، حاولي التحكم به وانزال دفقاته على مراحل، بدأت في ممارسة هذا التدريب على مدار أيام أسفرت عن سحر حقيقي، صار يمكنني النوم دون نخز المثانة التي قد لا تحتوي أحيانا غير قطرة أو اثنتين ينزلان بخروج الروح، هذه فرحة صغرى وسط الفجيعة، انتصار صغير لا يُرى بالعين المجردة وسط خذلان من القريب والبعيد، هل قلت خذلانًا، آه يا لمار كم فعل بنا الخذلان فعلته.
لم أكن يومًا مدخنة لكن سيجارة الصباح مع فنجان القهوة ضرورة ملحة كي أتمكن من التواصل مع العالم، اكتفيت هنا في كثير من الأحيان بنصف سيجارة أتحايل بمختلف الطرق على تدخينها في الحمام، أدلف للداخل وأنزل غطاء التواليت واقفة بقدمي فوقه، أشعل السيجارة ورأسي يمتد خارج النافذة، القصف بالخارج يرج المبني والطرقات على الباب تستعجلني بالخروج، أتجاهلها أحيانًا، تصيبني بالعصبية كل مرة، ولا أجد ردًا منطقيًا غير جملة واحدة: أعاني من الإمساك، يبدو هذا السبب منطقيًا في الكثير من الأحيان للمتنظرات خلف الباب، لكن بعضهن يبدأن بالتندر عن هذا السبب وكأنهن يخبرنني أن سبب اطالتي البقاء في الحمام هو أمر آخر يتواطأن على فعله، ربما لأن أخريات يقمن بنفس الفعل، أنهي السيجارة على عجل وأرش قليلا من معطر الجو خلفي فيما لو علقت الرائحة في الداخل رغم أني كنت حريصة على مد رأسي لأبعد نقطة ممكنة خارج النافذة وأخرج وأنا أتنفس الصعداء من أن هذه المرة عدت بسلام دون فضيحة في الطابق.
مرة كاد الأمر يصبح جرسة في الطابق حيث علا صوت رجل يبدو من لباسه ولحيته أنه من المتعصبين يقول أن هناك رائحة دخان تخرج من الحمامات واننا في حرب وهذا سلوك مرفوض وبدأ بإلقاء خطبة عصماء وانا أتجاهل أن أنظر باتجاه حتى جاء صوت طفل صغير يرد على الشيخ بأن حمام الرجال مليء بأعقاب السجائر فسكت الشيخ كأنه بُهت حيث أُسقط في يده القيام بدور الرقيب الديني علينا، ما قاله الطفل كان طوق نجاة لكل امرأة أحست بذات القلق الذي أحسست به من انكشاف غوايتنا الصغيرة أمام الآخرين ووضعنا في فوهة القيل والقال حول تلك النسوة اللواتي يردن الاستمتاع بسيجارة يتيمة، بذنب بسيط لا يخص أحد إلاهنّ، متعة بسيطة قد لا تعني أحد من المقيمين معنا لكنها بالنسبة لهن وقت مستقطع من الحرب، وقت مستقطع من رائحة الموت والدمار، وقت مستقطع من موت ربما يستهدفهن في اللحظة القادمة.
هو كتاب يصور يوميات الحرب التي عشتها في غزة أثناء زيارتي الأولى لها بعد غياب خمسة عشر عامًا/ أتناول في هذا الكتاب تجربة حصاري مع عائيلتي ضمن آلاف من النازحين في مستشفى القدس في حي تل الهوا الذي تعيش عائلتي به
الكتاب سيصدر أخر العام باللغة العربية عن منشوارات المتوسط-إيطاليا وباللغة الهولندية عن دار نشر إيبو في بلجيكا ودار نشر يورجن ماس في هولندا