أترك خلفي كل يوم عصفورا
وبمناسبة الكارثة الحالية في الشرق الأوسط، قمنا بدعوة كتاب من المنطقة لكتابة قصص وقصائد ومقالات للفت الانتباه إلى واقع مختلف عن ”الأخبار العاجلة“ من المنطقة.
أترك خلفي كل يوم، قبراً للرجل الذي كنته. كفناً للرجل الذي سأكونه. أترك خلفي كل يوم عصفوراً لا بد أنه سيصل قبلي الى سرير أمي.
أمزق جلدي هنا. المهنة التي نتعلمها في منافينا فتصبح هوية. أن نمزق ونمحو. نحن الذين نعيد نبش حكاياتنا ومرارتها ونخيط بها أيامنا الجديدة، تلك التي لا بد أن كدراً عميقاً يعيش فيها. يسممها وكلما نجحنا في تخطيها، تظهر لنا ندوب الحنين والذكريات. في كل مرة أمزق جلدي أعثر على قطعة. أظافر رجل عالقة من المدينة القديمة. دم متخثر من الطفولة. أصابع أمي وهي تحممني في شقتنا الباردة. رائحة ماء الورد. ضربات أبي بقضيبه الرمان. وخزات قلم البيك الأزرق التي شكها شقيقي فيّ. في كل مرة أنبش أعثر على الماضي في جلدي. آثار الحب الموجعة. قبلات محمومة. عضات الخوف. عشاقي الذين صاروا أشباح الغابة. كلما مزقت عثرت على فولاذ مفكك. فولاذ مدينتي التي غادرتها. هذا الفولاذ الذي نساه من أعاد تركيبي هنا في هذه البلاد الجديدة. فنحن هنا مجبرون من حيث نعرف أو لا نعرف على أن نخترع أنفسنا وأن نتركهم ولو قليلاً كي يركبون أجسادنا وطبقات هوياتنا الجديدة التي نتوغلها بحذر ونجبر على بعضها كي نتأقلم. هنا أعادوا تركيبي. أعدت معهم إعادة السؤال عن ذاتي وتشكيل خريطتها. لا بد من خريطة أخرى، لأننا لم نعد هناك. هذا الهناك الصعب والحنون والمتفجر والخرب والمطمئن والجامح والرديء. وفي الهنا، في حضوره لا بد لنا من خريطة ذهنية نبنيها، لا يستحيل فيها الحزن بل هو ثابت فيها. أي أنه بصمتها الدائمة، ويصير أن يصبح هو لغتنا نحن المنفيين على اختلافنا. الحزن المرمم لعلاقتنا مع ما عشناه وما نخوضه.
صهيب ايوب، كاتب مسرحي وروائي لبناني، له روايتين باللغة العربية صادرتين عن دار نوفل في بيروت، "رجل من ساتان"(٢٠١٨)، و"ذئب العائلة" (٢٠٢٤). وله عمل مسرحي باللغة الفرنسية بعنوان: les rêves qui dévorent la rivière. شارك كتابة وتمثيلا في العمل المسرحي الذي اخرجه الثنائي لينا مجدلاني وربيع مروة (٢٠٢٣). اسس ايوب مشروع "تعا نكتب"، ويعمل بين باريس وجنيف ولوزان.
أما هناك، من حيث أتينا فكل شيء حفظناه، نمر فيه بخفة ولا نحتاج الى دليل أو مرجع. هناك كل شيء اعتدناه وألفناه وأحببناه وحقدنا عليه، صار خلفنا ولن يعود، لأنه من "جهة الغياب عائد"، على ما يكتب الشاعر عيسى مخلوف. هناك حيث أننا بنقصنا كنا نعرف بلا عيون حتى، كيف نرجع الى البيوت وكيف نخطو في الشوارع وكيف ننام في أسرتنا، أما هنا فنتوه، وننام في أسرّة الآخرين وغرفهم وقليلاً ما سننام. لا أنام في المنفى، بل أسهو وأغرق في كوابيسي وأنزل في البلاط، وفي تلاليف الرأس، في الخوف المتجاهل والمراكم وفي الموت الناجي من ثقوبنا. شكلت جسدي الذي تحطم مراراً في رحلته الطويلة بين المدن والأشياء وركام الأسى، وأعدت اختراع منفاه الداخلي. فهناك منفى داخل المنفى. ولكل كاتب منافيه الكثيرة. جسمي الذي صار خردة يستعيد ندوبه وماضيه في أماكنه التي صارت منازله. لا بيت لهذا الجسد. هنا لا بيت لي، وأنا أعلم عميقاً، أن البيوت هي بيوتنا الأولى، حتى لو كانت كريهة ومستنقعة بالذنب وبالحقد المتوارث. لذا كان الخيال بيتي، والمنفى صيروته التي تحاكيه وتبنيه، مفهوماً تلو الآخر وتجربة بعد الأخرى، وطبقة فوق الأخرى. لذا أنا اليوم بناية عمرها المنفى. لا أقدام لها. تطير وتغط قليلاً كي ترتاح. ثم تطير مجدداً. تبحث ولا تجد، لأن لا جذور لها بعد أن اقتلعت. لذا أنا حر، وهنا للمنفى قدرته على صياغة هذه الحرية ودفعها دفعاً جنونياً، كي تبلور نظرتي الى العالم، كفرد وككاتب. منذ تسع سنوات لا أعرف كيف لهذا الجسد الذي تشكل بالقلق والخوف والبعد والتمزق، أن يستعيد نومه العميق أن لا يرجع الى هناك بالكوابيس والأحلام، أن لا يحس بقبضاتهم تخنقه فيهتز من الثقل الذي فيه فيفيق مذعوراً. كما استفاقت يوماً بطلة روايتي غلوريا مزراحي في مدريد واشتمت رائحة الخبز من فرن ساحة مالاسانا وانتحرت وهي تعود الى مدينتها طرابلس بالدم الأخير الذي نزل من صدغها، متمددة بين أغراضها التي حملتها معها من مدينتها التي غادرتها بلا رجعة. وهنا قد أعبر عن خوفي الغائر، من أن يصبح مصيري مثلها، منتحراً في مدن الآخرين بعيداً عن مدينتي. فالموت بين الأهل نعاس، علي ما عنون يوماً جبور دويهي مجموعته القصصية. أنا ذاك الكائن الذي يفيق مذعوراً كغلوريا، يبلع الماء عند الثانية فجراً، ويتطلع حوله الى صمت المدينة التي قيل عنها أنها مدينة الأنوار. ينزل من بيته كي يمشي. لا صوت ربما سوى لمتشرد أضاع زجاجته. أنا مثله أيضاً مشرد. لا أعترف بتشردي. ارتدي قمصاني المرقطة وبروشاتي الملونة وفولاراتي الحريرية وأخرج كي لا يكتشفوا ضياعي. ناقص ولا أعترف بنقصي، لكني أجرب العيش بجذور مقطوعة وباحتمالات الجسد الذي ركب من جديد، بمفاصله التي تحاول التخفف والمضي ثم التعثر. يشفع لمنفاي أنه وسع حركة عقلي ومعارفي وأرشدني الى لهجات ولغات صرت أتقن بعضها وأغناني بالتجريب والتحرر وأخذني الى ما لم يتح لي يوماً، وهو المعرفة شبه المجانية والتجارب شبه الساحرة والعلاقات المتفجرة تنوعاً وحرية ودهشة. الكتب والسينما والمسرح التي صارت جزءاً من حياتي الجديدة هي رفيقة وحدتي القاسية في هذا المنفى، وهي اليوم تشكل بيتاً غير مرئي لي، يحمني، قبل كل شيء من ذاتي. منذ نزولي في مطار شارل ديغول كان آخر شيء قديم مني قد مات. سقط مثل نوم بعيد. لا اذكره. ولا أعود أتذكر معه. آخر مرة رأيت فيها مدينتي طرابلس. لذلك أتخيل كل شيء، ببراءة الذين يعيدون صلاتهم بالذكريات. حاولت ولا زلت إختراع مدينتي من جديد، ولأنني هنا تمكنت من صناعتها بهذه المساحات الشاسعة من الاستعادة وبحب أيضاً فلم أعد أحقد على الألم الذي سببته لي. بل صرت أبادلها التقدير بتوثيقها وتحريرها من ماضيها الدموي ومآسيها الخاصة وأعيد خياطة حكاياتها بعين بعيدة لم تعد تنبذها. كان الأدب، فعل كتابة وإعمال عقل وتوليف، يخلق لي ملاعب خسرتها. الأدب هنا وليس هناك. الأدب الذي أصوغه في غرفي الباريسية وبارات المدينة وقاعها الليلي وسهرها والحرية التي وسع المنفى أشكالها وأنساقها، هي اليوم ما تعطي لأدبي الذي أكتبه عن مدينتي البعيدة هذه الكثافة وهو ما يفك عقد لساني وأصابعي فأنز بما لا يمكن أن أرويه في مدينتي الأولى. ويساعدني هذا الأمر على التخطي، كي أبني آخر لا علاقة له بصهيب السابق سوى اسمه. صهيب الذي تحول الى أحجية أمام نفسه. فلا لباسه الجديد له علاقة بالآخر الذي كانه ولا لكنته ولا لغته ولا حتى كتابته التي صارت تحمل في مسامها لغة المنفى، كلمات ومعنى. إذ تركت لغتي القديمة التي شكلتها الصحافة الورقية في مدينتي ثم في بيروت. تركت خلفي لغة الأمومة التي أحياناً تجعلني أتعثر، لهذا أهرب الى كتابة الشعر باللغة الفرنسية، كي أعترف بآخر صرته. يجول على بارات ستراسبورغ سان دوني ويأكل في مطاعم الباستيل وسان جيرمان كرجل غير مرئي، وربما هي متعة أحبها أن اصبح شبحياً. أمر بلا خوف بين العابرين في محطات المترو وعلى أدراج مونمارتر واتمدد بخفة على عشب حديقة لوكسمبورغ، وأتفرج الى هذا العالم برقة الغرباء. أنا غريب، كالغريب الذي كنته في مدينتي، وكالغريب سأكونه في مدن العالم جميعاً. فلا مهرب من منفاي ولا مهرب من غربتي. حين قدمت الى باريس كان يوماً حارقاً في نهاية صيف ٢٠١٥، تركت جثتي في طرابلس، وحين وصلت اكتشفت أن أشباحاً كثيرة عليّ ضبضبتها في جسمي. اعتقدت طويلاً أننا نبقي آثارنا القديمة في جيوبنا وقد نتركها في الطريق خلفنا مثل بذور لعلها تدلنا الى الطريق يوماً، لكني استوعبت لاحقاً ان لا طريق لنا. نحن مجرد أجساد تشكل وتتشكل بفعل الطريق الذي أجبرنا عليه. أنا جسد جديد لا علاقة بالآخر الذي كنته ولا بالشخص الذي سأكونه. أنا كائن ينام في قصيدة و في مقطع سينما، ويجول كشبح على طاولات المقاهي، ليخترع أبطاله، كي يعودون معه في الليل الى مدينته. أعود كل يوم الى المدينة، ثم أستيقظ مذعوراً هارباً منها، أبتلع رشفات الماء سريعاً وأنزل الى الشارع أتفقد المتشرد الذي أضاع زجاجته.