ولدت جسدا مخفيا

لمياء المقدم، شاعرة ومترجمة تونسية، ولدت في مدينة سوسة التونسية، بدأت كتابة الشعر في سن مبكرة، ودرست بكلية الآداب بسوسة اللغة العربية وآدابها، تعيش وتعمل في هولندا منذ أكثر من من سبعة وعشرين عاما. عملت صحفية ومقدمة برامج إذاعية بإذاعة هولندا الدولية ومترجمة جنائية بالمحاكم الهولندية. صدرت لها أربع مجموعات شعرية هي:
- بطعم الفاكهة الشتوية، دار النهضة العربية ٢٠٠٧
- انتهت هذه القصيدة انتهى هذا الحب، دار آفاق المصرية ٢٠١٥
- في الزمن وخارجه، دار المتوسط- ميلانو ٢٠١٩.
- قصائد العمى، دار المتوسط، ٢٠٢٣.
- كتاب الجسد، ضمن سلسة "أشراقات" التي أشرف عليها وقدم لها الشاعر أدونيس. دار التكوين ٢٠٢٣
كما صدرت لها ترجمتان من اللغة الهولندية وهما:
- أنت قلت، رواية تحكي سيرة الشاعرين سيلفيا بلاث وتيد هيوز. الهيئة المصرية للكتاب ٢٠١٦
- مالفا، دار الساقي- بيروت ٢٠١٩
ترجمت دواوينها الى اللغة الهولندية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية، وفازت بجائزة الهجرة الأدبية في هولندا عام ٢٠٠١.
فتحت عيني في منطقة مظلمة
بين الأرض والسماء
لم اسمع الموسيقى لأنني ولدت قبلها
ولم ابك لانني بلا ماكينة في داخلي تحول الدم الى دموع
ولدت جسدا مخفيا
من مادة متعفنة تركتها الشمس تسقط من قلبها
كبرت وترعرعت كما تفعل الاحجار
وعندما ولدت رأيت نفسي في المرآة فظننتني امرأة
ثم ظننتني رجلا
وعندما تذكرت
عرفت انني جسد فقط
***
هاجمني الضوء
فأوجد لي عينين غارقتين
ودخلتني الريح
فهزت قلبي من موضعه حتى صرخ
نادى قلبي لينقذه أحد من العاصفة
ومنذ ذلك اليوم وهو ينادي بلا توقف
الريح دفعت الدم في العروق
والريح صنعت الفكرة خلف الجلد
وهناك بين الدم والعروق
بين الحقيقة وظلها ولد شقائي الذي سميته
ساخرا: المتعة
***
لم يعجني احد بيديه
لا احد وقف وراء خلقي
خلقت نفسي من الحاجة
كنت خشنا
ثم أصبحت مع الوقت طيعا
العقول التي تداولت علي عقلا وراء عقل
روضتني
منحتني اسما ضيقا
وصفات لم تسعني
واليوم
انا الفائض خارج اسمه وصفته
اتكلم، ليس بوصفي المصلوب
العاري
او المشلول
بل كما تتكلم الأحجار
التي خزنت المعرفة بأنواعها
حتى تصلبت
ثدي مهمل: حجر في قاع البحر
فم بلا قبلات: حجر في فم سمكة
اما أشد العداوات واقساها
فهو عضو لا يلمس او يتدفق ماؤه
هذا حجر جاهل
حجر من حجر
***
واليوم اريد ان اخبركم عن المحنة:
كل ما هو مادة يمتلك عقلا ابديا
عقلا من المادة الخالصة
محنة الجسد الزمن
الحقيقة داخله
نوع من التذكر المستمر
***
تكلم الثدي فقال:
أرضعت الكل ولا احد ارضعني
من اللمسة جئت وكنت لا ازال احبو حين انغرس ظفر في ظهري
وافقدني القدرة على المشي
تعلقت كما تتعلق الأشجار بالحلم
وقاومت الأرض وجاذبيتها بأصغر أحلامي
وأقلها أهمية
عضني فم فتكلمت أول مرة
لا اتذكر ما قلته
ولكنه كاف ليحكم علي بالاعدام في ساحة عمومية
اعدمت وأعدمت ومن رقبتي سال دم كثير
وصلبت على اطرافي كالمسيح
لم اصرخ
الا لأبكي الايدي التي غادرتني
ويوم صرخت تعلمت الارض ان تكون اما وكفت عن شد الكون اليها كطفلة
الأسنان التي قضمت حلمتي كانت علامة
ارشدتني الى الجوع
***
ثم تكلم الفم فقال:
يؤلمني الحب
القبل التي نسي اصحابها ان يدفنوها قبل أن يغادروا
تتكوم الشفتان كفكرة أولية عن الاجوبة
مع ان ما يسكنني ويحركني هو اللغز الذي في الداخل
لكن سعادتي متأتية من تخيل ان وراء كل شيء أحجية معقدة
تربطها ببعضها البعض
وان ما يشد الشفة إلى الشفة هو الرغبة
في الفهم
والتفكر وسط عالم واسع لا يفكر
كذلك يتعارض داخلي مع خارجي
وكذلك كنت
لا احاول الوصول لشيء
لا وعي خلف ما لا يمكن توضيحه
لا اسفل ولا اعلى من
الفراغ
لا عدالة اصلا غير عدالة التقابل بمحض الصدفة
وقد كان لي رأس من ماء ادخله في المادة فتتفتت وفي الجلد فيتحول الى نهر
تسلك غالبيتنا الدرب نفسه
الدرب الذي يوصلنا في نهاية الأمر
الى الفجوة
حيث كل شيء يذهب بلا رجوع
***
ثم تكلمت اليد فقالت:
مجددا وفي مواجهة حقيقة التذكر من جهة وحقيقة الجسد من جهة أخرى أنا
من يقترح المصالحة ويمسد على القروح.
متوحدة وغير مبالية بمن يظلم ومن يظلم
من يقع ومن يكمل
أركز جهدي كله لايقاظ الحلم الميت في الاطراف الميتة
ومن بين اصابعي أطلق تلك الحرارة التي تعيد كل شيء الى مكانه
وكل فكرة إلى أصلها
تعيد الحب الى امه وابيه
والطفلة إلى التراب
لا يهمني الخلود ولا أعبأ بالغايات لكنني اثق بالدم
وبالوهم
من كان بلا اجنحة ستولد له يوما اجنحة
السباق ليس للاسرع
والمعركة ليست للأقوى
***
جاء دور القلب. والقلب ليس الفرع المشاغب فقط ولكنه ايضا المنطقة التي تحاول دمج الكل في الكل، ومنه يبدأ الايمان معزولا وهادئا
معادلا بين القديم والجديد
معادلة تبلغ حدود المحنة
منشغلا بما فقده اكثر من انشغاله بما ينتظره، ومستقرا في تلك المنطقة.
في الليل يخرج القلب للعراء ليتفقد النجمة هو يدرك انها ليست هناك
انها لم تكن ابدا هناك
لكنه لا يحب التفكير في المنطق الذي يحكم آلة الخارج ويفضل ان يفقد نفسه في المعارك الداخلية
سبق له ان كان متسعا حتى بدا له كل شيء معقولا
حتى اكتشف أن ما يبقيه حيا هو ولعه الدائم بالظلمة
وقبل أن يتكلم القلب يجب على الجميع ان يعوا جيدا
ان القلب لا يتكلم إلا للضرورة القصوى
وأنه لا يتكلم ليقول شيئا بعينه
ولكن لينذر بالنهايات
قال القلب وهو يضع يده على قلبه:
في كتاب اصيل كنت سأكون الحزب الشيوعي الذي يدافع عن الفقراء،
العلم الابيض الذي يرفعه اللاجئون وهم يعبرون حدود الزمان والمكان
الفقرة الأساسية في نشيد او اغنية تمجد الحياة على كوكب الارض
وفي سيرة الوقت كنت ساكون المركب الصغيرة التي اوصلت الجميع الى الضفة
دون ان تغرق منهم قشة
او يسقط من كيس صبية احمر شفاه في البحر
ولكني هنا، وفي هذا السياق، اريد ان اخبركم انني لطالما تمنيت ان اكون عجلة مطاط
بالونا في الهواء تتقاذفه الرياح
حذاءا في فم كلب
تمنيت كل هذا ومن التمني-
اقصد من الحرمان- نبتت قنوات اوصلت داخلي بداخل كل حي
وربطت بين مسامي ومياه الارض
كنت رخوا طريا وبعد محاولات عديدة تعلمت ان أحل محل القذائف في الحرب
والفيروسات في الاوبئة
انا قلب، وهذا واضح في كل ما افعله
مكاني ليس في المادة وانما في الروح
وكان يمكن ان اولد في وسط نهر
ولا احد كان سيشعر بالفرق