الملك المزيف

Navigation

الملك المزيف

قصة قصيرة من عُمان
Laila Abdallah

إنه الصيف في جنوب الكرة الأرضية (وهو الشتاء في شمال الكرة الأرضية)، وفي شهر يناير تجمعهم جميعًا مجلة Literatur.Review، وتنشر قصصًا لم تترجم أو لم تنشر من قبل من شمال وجنوب عالمنا.

ليلى عبد الله (1982-) المعروفة أيضًا باسم ليلى البلوشي هي كاتبة وشاعرة وناقدة عمانية، أصدرت في 2014 كتابين هما «رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وأناييس نن»، و«هواجس غرفة العالم»، الذي حاز على جائزة أفضل إصدار في المقالات في مسقط عام 2015، أصدرت مجموعة قصصية بعناون «كائناتي السردية» عام 2016 التي حازت على جائزة أفضل كتاب قصصي في مسقط عام 2017.جمعت انطباعاتها القرائية في كتابها الذي حمل اسمها الجديد رأيكة وكتاب وكوب من القهوة» (2018)، وأصدرت أيضا كتابين في أدب الطفل، وروايتها الأولى «دفاتر فارهو» (2018) عن مآسي اللاجئين الأفارقة، ترجمت بعض نصوصها الشعرية إلى عدة لغات، منها البولندية والإسبانية.

كنت في كلّ ليلة أتسكّع مع ندمائي. نحتسي مشروبًا رخيصًا. ونتنابز بألقاب مضحكة. نأخذها من صفاتنا. فكانوا ينعتوني بالملك المزيف؛ لأنّ ملامحي تشبه ملامح الملك على اختلاف أبّهة الملبس والمنطق.
وفي ليلة _وأنا أحتسي ثمالة كأسي_ خطرت ببالي فكرة مجنونة، جعلتني أزعق فيهم بصوت النّشوة المترنّح: "يا رفاق السّكر والعربدة، حين أصير ملك هذه البلاد، سأدعوكم إلى براميل الشّراب المعتّق، وهيّا الآن هاتوا شرابكم الرّخيص؛ أكرموني لأكرمكم".
ضحك السّكارى، وصار كلّ منهم يهذي بأمنياته. ساخرين من ملك بلا تاج. يرتدي ثيابًا مرقّعة. جيوبه ممزّقة. يقضي نهاره يصرخ على زوجته، وهي تلعن اليوم الذي تزوّجت به. تماشى مع حماسه تلك الليلة أحد الشّاربين قائلاً بلسان مثقل من السُكر: "ستصير ملكًا، وسنحتسي شرابًا مصفى في ضيافة مجلسك كلّ ليلة. فهاج السّكارى وانفعلوا مصفّقين ومصفّرين لملكهم الميمون".
نهضت وأنا أتخبّط في مشيتي حتّى وصلت بيتي. كانت زوجتي كالعادة تنتظرني عند باب البيت. تطلق لعنات اعتدت على سماعها كلّ ليلة. غير أنّي قلت لها هذه المرة بصوت ينمّ عن غيظ: "يا امرأة الشّؤم، سيصير زوجك السّكير هذا ملكًا، وسيتزوّج بأميرة تليق به".
أطلقت ضحكات عالية كادت من صخبها أن توقظ الصّغار النّيام، ثمّ قالت بنبرة متشفّية: "يومها سأرقص أمام الملأ أيّها الملك العربيد، هيّا اذهب إلى النّوم يا نذل؛ فلديك غدا عمل".
استيقظتُ صباحًا واسترقت السّمع لصوت جارة زوجتي، وهي تحدّثها أنّ زوجها _الذي يعمل طبّاخًا في القصر_ سمع أنّ الملك مهدد بالقتل من قبل جماعات في البلاد الأخرى، وأنّه كثّف حراسته وصار يدقّق في كلّ من يدخل القصر، وأنّه عيّن مراقبًا على الطّبّاخين الذين يعدّون الطّعام، والذين يوفّرون الشّراب خشية أن يدسَّ أحدهم السمّ فيه.
لا أدري كيف حملتني قدماي إلى بيت جارنا؟ أحد طهاة القصر طالبًا منه أن يأخذني إلى قصر الملك. ارتاب الجار من أمري، فهي أوّل مرة أتحدّث معه؛ فرفض طلبي، لكنّني أقنعته بأنّني لو هذّبت لحيتي وأنقصت وزني سأكون شبيهًا للملك، وقد ينفع ذلك الملك، كما هدّدته بأن أشيع في المدينة أنّه يسرق مؤونة وأواني من مطابخ القصر، ويوزعها على أقاربه.
فوافق مرغمًا، وذهبت برفقته إلى القصر، ودبّر لي لقاء مع وزير الغذاء الملكيّ، فالتقيته وأخبرته عن امتلاكي لوسيلة تنقذ الملك من شرّ أعدائه وتحميه.
فحص الملك هيئتي، مستغربًا تشابه ملامح وجهي العريض وعيني الغائرتين وجبهتي البارزة وذقني الدقيق. قلت له متلعثمًا: "انظر إليّ أيّها الملك، إنّني أشبهك، وحتّى رفاقي يلقّبونني بالملك المزيّف، بإمكاني أن أحلّ مكانك وقت ما تريد اختبار أعدائك لأحميك دون أن يعلم أحد بذلك".
أُعجِبَ الملكُ بالفكرة، لكنّه ظلّ مرتابًا، وسألني: "ما مصلحتك بأن تغامر بحياتك؟!"
أجبت مرتبكًا: "نحن فداؤك، وحياتك حياة للشّعب".
كان خيالي سابحًا في براميل الشّراب التي سأحتسيها كلّ ليلة إن غدوت ملكًا ولو مزيّفًا، وأردفت: 
"وماذا تساوي حياتي الرّخيصة أمام حياتك الثّمينة لهذه البلاد، روحي فداك أيها الملك".

طلب منّي أن أتخلّص من حياتي الماضية، وأن أستقرّ هنا في جنبات قصره، وألّا يعلم بالأمر حتّى أقرب أعوانه. خضعت لنظام غذائيّ لتخفيف شحومي، وقام حلاق الملك بتحديد لحيتي بالهيئة الملكية وارتديت اللباس الملكيّ، وكنت أعيش في جناح خاص قرب أجنحة الحريم حتّى لا يراني أحد من حاشية القصر، وحين يرغب أنّ أحلّ محلّه في أيّة مناسبة، يبقى هو في الجناح وأذهب مع الحرّاس، وحين أعود أنقل له ما دار في اللقاءات التي عادة ما تكون احتفالية، ولا تتطلّب منّي الدّخول في أحاديث رسمية. 
ومع احتدام النّقد وتطاول المعارضة أصبح الملك مرتابًا، وظلّ يلازم جناحي. فمرّت الشّهور وأنا أزداد رونقًا بفضل الأنبذة المعتقة التي أحتسيها كل ليلة. كما بعثت ببراميل لندمائي السّابقين فأنا ملكهم المزيّف. كان الوزراء يوقّرونني، والحرّاس حريصين على حمايتي، والطّهاة يجتهدون في إرضاء معدتي، لم يعكّر صفو حياتي شيئًا، لكنّ ما كنت أخشاه حقًّا زوال هذه النّعم والعودة إلى حياة الفقر. لعن الله تلك الحياة البشعة! 
مع الوقت توسّعت سلطتي، وصار الملك من رعبه يلازم جناحي المظلم. كنت حريصًا بدوري على نقل الأخبار المزيفة عن أعدائه المتربّصين ومدى خطورتهم، حتّى أكفل بقائي لأطول مدة مرفّهًا!
وفي ليلة ظلماء كنت أتمشّى مترنّحًا في حديقة القصر. أطارد جارية بعيدًا عن الحراس، وإذا برجل ملثّم دنا منّي وفي يده خنجر مسموم صوّبه نوحي. كنت أتراجع للوراء وأنا أقول له متفصّدًا عرقًا وصوتي يرتعش: "لا لست الملك الحقيقي أنا مجرّد رجل معدم، أنا مزيّف، أرجوك لا تقتلني، لست الملك، أنا شبيهه، صدّقني، الملك هناك في الأسفل، في الجناح المظلم".
مات الملك... مات الملك! تفشّت هذه العبارة في أنحاء المملكة كلّها، وحين سمعه الملك المختبئ في الجناح المظلم أدرك أنّ الأعداء تربّصوا لشبيهه، خرج بكامل طلّته إلى مجلسه ليخبر وزراءه أنّ الأعداء قتلوا شبيهه، وأن تلك الصّفقة التي عقدها معه أنقذت حياة ملكهم.
لكن الوزراء رفضوا تصديقه واتّهموه بانتحال شخصية الملك خصوصًا أنّ هيئته قد تغيّرت، فقد زاد وزنه وطالت لحيته، وأمروا الحراس بقذفه خارج القصر، فظلّ الملك يردّد: "أنا الملك، أنا ملك هذه البلاد، أيّها الوزراء الحمقى سوف أقطع رؤوسكم جميعًا، اتركوني، أنا الملك، أنا وحدي الملك، لم أمتّ، ما أزال حيًّا، ذلك الرّجل كان شبيهي!".
يقال، إنّ هذا الرجل الذي صار يدّعي أنّه الملك، اعتنى به مجموعة من السّكارى، كانوا ينحنون له كلّما دخل الحانة.


 قصة مأخوذة من المجموعة القصصية بعنوان " فهرس الملوك"، دار المرايا الكويتية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى.