قطبة

إنه الصيف في جنوب الكرة الأرضية (وهو الشتاء في شمال الكرة الأرضية)، وفي شهر آب (أغسطس) تجمعهم جميعًا مجلة Literatur.Review، وتنشر قصصًا من شمال وجنوب عالمنا لم تُترجم أو لم تُنشر من قبل.
مونا مري هي كاتبة ومسرحية وفنانة مسرحية لبنانية تجمع أعمالها بين الأدب والأعمال الأكاديمية والأداء والإنتاج السينمائي والتلفزيوني والتعليق الثقافي. بفضل خلفيتها في المسرح والوساطة الثقافية، تمزج أعمالها بين عمق السرد والبصيرة الأدائية.
هي مؤلفة ثلاثة كتب: Festivity Under Water/Tabula Rasa (مجموعة مسرحيات)، Out of Service (مجموعة قصص قصيرة وكتاب مصور)، و Domino’s Devils. وقد تم ترشيح هذا الأخير للقائمة الطويلة لجائزة الملتقى المرموقة للقصة العربية القصيرة لعام 2023.
غالبًا ما تستكشف أعمال مرحى موضوعات الذاكرة والصدمة والهوية وعبثية الحياة اليومية. إلى جانب كتاباتها الإبداعية، ساهمت مرحى كناقدة مسرحية وباحثة وأكاديمية. وهي تدرّس حاليًا مادة دراسات المسرح في جامعة جيمس ماديسون.
تمـرّر أصابعهـا لتعقـد القطبـة الأولـى. عليهـا قبـل ذلـك أن تضـع خيطـاً أسـود فـي الثقـب. عندمـا اتصّـل بهـا والـدي، لـم تتفاجـأ. لـم يتفاجـأ أحـدٌ منـا. كنـت أقـف خلفهـا، وكانـت تحـاول أن تمـرّر هـذا الخيـط اللعيـن... أرى ظهرهـا حانيـاً...
لــم يبـ كِ أحـ دٌ منــا بعــد: أنــا الواقفــة خلفهــا وهــي التــي تجلــس علـى حافـة السـرير. رفعـت يدهـا وطلبـت منـي بصمـت أن أمـرّر الخيــط فــي ثقــب الإبــرة. فعلــتُ ذلــك. أكملَــت مســيرة القطبــة الأولـى. يجـب بلُغـة الخياطـة وتقنياتهـا أن «تسـرج زاف بنطـالٍ» لخالتــي، وأن تقصّــر بنطــالًا آخــر لخالتــي الأخــرى وأن تضيّــق كمــر فســتان جدتــي... ســتقوم بــكل هــذا الليلــة، الســاعة الواحــدة بعـد منتصـف الليـل، بعـد كثيـرٍ مـن التأجيـل. رُكِنـتْ تلـك الثيـاب لمــا يقــارب الشــهر علــى كرســي طاولــة الســفرة. كأنهــا بتأجيــل أعمــال التضييــق والتقصيــر هــذه، كانــت تؤجــل مــوت جــدي، والدهــا؛ أبــو نجيــب.
الخيــط يمـرّر نفســه بصعوبــة بيــن ثنايــا قطعــة القمــاش ويتــرك نقاطـاً بالـكاد تُـرى. كأنـه يسـطّر فصـولًا مـن حياتهـا: يـوم تعلّمـت مــن مجــات البــوردا واســتعانت بالباترونــات والرســوم لتخيــط تنورتهــا الأولــى فــي عمــر الثالثــة عشــرة، يــوم لــم تعــد التنانيــر القصيــرة مســموحة. يــوم كانــت تطيــل تنورتهــا أمــام جــدي لتعيــد تقصيرهـا عنـد الخـروج مـن المنـزل، لحظة تمزيـق خالـي تنورتَها النبيذيــة اللــون، شــجارهما المســتمر فــي ســنين المراهقــة، لحظــة أغلــق جــدي البــاب بالقفــل علــى خالــي لأنــه تأخــر فــي الســهرة، النهــار الــذي أخــذ فيــه أمــي وخالاتــي ليتطوعــن فــي الصليــب الأحمــر، يــوم خاطــت فســتانها الأحمــر الــذي جلــب لهــا ثاثــة عرسـان، كان والـدي مـن ضمنهـم، يـوم منعهـا جـدّي مـن حضـور
خطبـة ابنـة خالتهـا، رغـم رجـاء والـدي، ورغـم حصـول خطبتهما بشـكلٍ رسـمي، يـوم سـجّل خالتَـيّ الصغيرتيـن فـي دار المعلميـن. وعندمـا طالبـت والدتـي أن تتسـجّل أيضـاً فـي دار المعلميـن قالـوا لهــا: «إنتــي مزوجــة وعنــدك ولــد.»...
لـم تكمـل أمـي تعليمهـا الجامعـي. عندمـا نجحـت فـي الثانويـة في قسـم الرياضيـات، كانـت بيـن سـتّة فـي المئـة نجحـوا آنـذاك وكانت حامـاً. تسـجلّت فـي كليـة إدارة الأعمـال بينمـا تسـجل والـدي فـي كليـة الحقـوق، ولـم يكمـل أي منهمـا اختصاصـه لأننـا أتينـا تباعـاً. أربعــة أطفــالٍ وجــدّ. حملنــا جــدي جميعــاً بيــن يديــه الكبيرتيــن وأخذنــا إلــى جنينــة الصنائــع. كانــت تلــك نزهتــه المكرّســة مــع باقـي الأحفـاد، وكنـا نحـن الُأوَلَ الذيـن مُنحنـا مُتعـةَ أن نتنـزه فـي جنينــة الصنائــع، وأن يشــتري لنــا غــزل البنــات أو الصبيــان إن وُجــد. الأول لونــه زهــري والثانــي ســكريّ، ولــم يكــن متوافــراً لــدى باعــة العربــات المجــاورة بشــكل دائــم.
كان يُمتِعنــي أن أراقــب محــالّ تأجيــر البســكليتات: الدراجــات الهوائيـة معلقـة علـى السـقف، والدواليـب موزّعـة. ثمّـة درّاجـات العجـات الأربـع ثـمّ درّاجـات الكبـار بعجلتيـن ثـمّ العجـات التـي تُنفَـخ بالمنفـخ اليـدوي وسـط واحةٍ مـن الأصـوات المتقاربة. صوت المنفــخ الحديــدي وصــوت الــدولاب الــذي «ينفّــس» بعــد إرخــاء الصنبـورة... دواليـب الكاوتشـوك المثقوبـة تُرّقـعُ بعـد وضعهـا فـي المـاء... الفقاقيـع... رائحـة الباتيكـس... الجلـود الصغيـرة والعزقات المرميـة علـى الأرض... كان الانتظـار لاسـتئجار دراجـة هوائيـة طويـاً بمــا يكفــي لكــي أرصــد طقــوس الدواليــب والدراجــات... وكانـت والدتـي سـعيدةً جـداً بنزهـة الصنايـع لأنهـا سـترتاح قليـاً مـن «دوشـتنا وطوشـتنا...» إلـى أن حـرّم جـدي هـذا الطقـس حيـن «سـوّدلوا وجـو الدَيْـوس» أخـي الصغيـر.
أخـي المعـروف بـ«ورشـنته»، قبـل أن يتمكـن مـن المشـي حتى، جعـل فـي ذاكـرة كلّ منـا محطـةً تُذكـر وتتـرك الكثير من مسـاحات الضحــك... وجــدي مــن أولئــك الذيــن يضحكــون باقتضــاب، أو
لنقـل إنـه يـدرس ضحكـه، وحينهـا لا يكـون الضحـك ضحـكاً! لـن يضحــك جــدي حيــن قــام أخــي العزيــز بصفــع رجـلٍ مسـنّ بــكل ثقـة بعـد أن حـاول الأخيـر اسـتلطافه بابتسـامة.
حيــن عــاد أدراجــه مــن مشــوار الصنائــع ذاك النهــار، وضــع جــدي «الصبــي» بيــن يــدَي والدتــه، وقــال لهــا مخفيــاً ابتســامة مقتضبـة: «هيـك ماشـي عالطريـق وضربـو... قلتلـو يـا جـدي شـو عامللــك الزلمــي تتضربــو كــف؟ يــا ديّــوس لهيــا... بقــاش بــدي آخــدك معــي.»... جدتــي تـ زّم شــفتيها. «بعــد هالكبــرة يــا قـ رّ... وشــو عمــل الزلمــي؟.»
• أيا زلمي؟
• اللي أكل كف.
• يــااااا ذكيــة... كان عــم يضحــك وأنــا بلشــت عــم عيّــط عالصبــي...
• إمّو اللي لازم تعيط عليه...
وأمــي تلــفّ ورقــاتِ العنــب فــي المطبــخ، و«تســمّع» لأختــي قصيــدة «ســقف بيتــي حديــد»، وأخــي يبرعــط بيننــا فــي غرفــة الجلـوس، بينمـا يحـاول أخـي الأسـنّ منـه تهدئتـه، وأنـا أردّد خلـف أختـي «ركـن بيتـي حجـر، فاعصفـي يـا ريـاح وانتحـب يا شـجر.» كنــت أرددهــا «علــى العميانــي» دون أن أفهــم معنــى الانتحــاب.
اعتقــدت أن «انتحــب» هــي دعــوة للشــجر إلــى ممارســة فعــل الحـب. «أنـت حِـب يـا شـجر...» كنـت أرفـع صوتـي وأنا أستشـعر وأشـوبر بيـدي الاثنتيـن يمنـةً ويسـرة، وصعـوداً ونـزولًا، كأن كل تلـك الشـوبرة سـتخرج ميخائيـل نعيمـة مـن قبـره ليأتـي إلـي ليعبّـر عــن امتنانــه لشــاعريتي التــي مــأت الكـون عطفـاً وحنانـاً. أليــس هــذا مــا قالــه لــي والــدي؟ «الاســتظهار مــش بــس تســميع... بــدك تحســي بالإشــيا.» اكتشــفت أن هــذا أهـ وَن مــا يكــون، أن أحــس. هــذا الأمــر الوحيــد الــذي لا يحتــاج إلــى كثيــر مــن الجهــد معــي. وهكــذا مــع «ركــن بيتــي حجــر» كنــت أحــس. وعندمــا تعصــف
الريـاح كنـت أحـس أكثـر، وعندمـا «ينتحـب» الشـجر كنـت أحـس وأحــس وأحـسّ.
• اسكتي يا بنت...طوشتينا. عيطيلها لإمك بدنا نمشي.
لا أعلـم لمـاذا طلبـت جدتـي منـي أن أنـادي أمـي، مـع أن غرفـة الجلــوس كانــت ماصقــة للمطبــخ، ومــن المؤكــد أن والدتــي ســمعت، لأجــل هــذا أتــت ومعهــا فناجيــن القهــوة.
• له يا ديّوس لهيا... يا جدي يااااا جدي... يا ديّوس إنت.
حملــه و«جعجــره»، ولعــب معنــا، أو هكــذا أحــاول أن أرمّــم ذاكرتــي.
فــي ســنواته العشــر الأخيــرة، بــات قليــل الــكام. كثــرت اســتعاناته بالعصــا، واســتعاض عنهــا أحيانـاً بالــ.Walker كنــت لا أزال فــي الجامعــة حيــن قصــدت منــزل خالــي ومعــي كاميــرا فيديـو لا أذكـر مـن أعارنـي إياهـا. كان جـدي يـروح ذهابـاً وإيابـاً بعصــاه فــي الشــرفة، حانـيَ الظهــر ورأســه كثيــر الحركــة... كأن قبّوعـة الصـوف التـي أصبـح يضعهـا طـوال الوقـت تحـرس رأسـه وتحميــه مــن الســقوط. عينــاه الخضــراوان باتتــا ترمقــان كل شــي ببــطء الآن. نظــر إلـيّ ورأســه يرتجــف: «شــو... عــم تصورينــي قبــل مــا مــوت؟.»
أطفأت الكاميرا.
مشــى مــن غرفــة الســفرة إلــى غرفــة الجلــوس، وجلــس علــى مقعــده. لا أعــرف أيــن أصبــح الفيديــو الــذي صورتــه. أحــاول التذكــر.
علــى بعــد أمتــار مــن حافــة الســرير، خزانــة صغيــرة صفــراء فيهــا عــددٌ مــن الشــرائط والكاســيتات. أنظــر إلــى الجانــب الآخــر مـن الغرفـة حيـث البـاب وقربـه تلـك الخزانـة. لا وقـت لـدي الآن للتفكيــر فــي تلــك الشــرائط. يجــب أن أبقــى قــرب والدتــي.
• صوريني... بدكش تصوريني؟ صوري...
صفــق بيديــه الاثنتيــن. لــم يعــد يقــوى علــى رفــع صوتــه. بــات يصفـق بيديـه لتأتيـه جدتـي بحبّـات الـدواء أو بالطعـام، وكلما صفق هـزّ رأسـه أكثـر. جـدّي يحفـظ المواعيـد؛ مواعيـد حبـات الـدواء. وجدّتــي تحفــظ الأمكنــة؛ أمكنــة الحبــوب والأوراق والوثائــق. لا تتقـن القـراءة والكتابـة، لكـن لهـا ذاكـرة بصريـة وصوريـة تمكنّهـا مــن إدراك المضمــون العــام لــكل وثيقــة أو علبــة دواء. وضعــت الملفــات فــي أكيــاس متعــددة الألــوان. بعضهــا كان فــي خزانــة غرفـة النـوم والبعـض الآخـر فـي دُرْجٍ تحـت التلفزيـون. والأدويـة كانـت فـي الخزانـة المواجهـة للحمـام. فـي هـذا الحمـام، كان لـكل الأحفــاد محطــات دعــك... عندمــا كنــا نحــن الأطفــال ننــام عنــد جدتــي، يصبــح الحمــام شــرطاً مــن شــروط المكــوث وهــي التــي تشــرف شــخصياً علــى تحميمنــا. كان لهــذا الإشــراف مشـقّة علــى أجســادنا الصغيــرة. تفــرك أجســادنا، وتمســكنا مــن تحــت آباطنــا لتنظـف كل سـنتمتر مـن أجسـادنا. كانـت تلـك المسـكة موجعـة لحـد الصــراخ. تنتهــي مــن حفيــدة أو حفيــد لتبــدأ بآخَــر مخرجـةً الأول مــن الحمــام مغلفـةً إيــاه بمنشــفتين، فيتوجــه هــذا الأخيــر مســرعاً فــي الكوريــدور مخافــة أن يَنْقــش الأرض بنقطــة مــاء ســقطت ســهواً عــن جســمه أو عــن شــعره ليصــل إلــى غرفــة الجلــوس حيــث الســجادة. هنــاك، هامـ شٌ مــن الأمــان ســرعان مــا ســيبدّده صــراخ ذاك الــذي ستمســكه جدتــي مــن إبطــه مــن جديــد. جــدي يجلــس صامتـاً... يــداه ترتجفــان وهمــا تبحثــان عــن حبــة الــدواء. يزيــح عنــه صينيــة الطعــام... بيــض وبصــل دون ملــح.
• عم تصوري هلق؟
تأخـذ جدتـي الصينيـة. ينظـف يديـه، يمسـح فمـه بخرقـة المـاء، ويبتســم.
• يــا رجّــال أخــدت حبــة الضغــط؟ أتصورينيــش... زيحــي الكاميــرا... زيحيهــا... بديــش إتصــور.
• صوريني أنا.
يبتســم. رأســه يهتــز طــوال الوقــت. بقــي مبتســماً دون كام. الكاميــرا تصــوّر وكانــا صامــت.
• شو بدٍّك إحكي؟
• ولا شي.
أردت أن أعـرف أكثـر عن نشـأته وانضمامه إلى سـلك الإسـعاف وعــن حكايتــه مــع أبــو حمــود. اكتفيــت بالنظــر إلــى هــذا الخيــط الشـفاف فـي عينيـه. كان يكبـر وأنـا أتخيـل المشـهد غيـر المكتمـل لحكايـة الحـذاء التـي سـمعتها منـه سـابقاً.
كانــا، هــو وأبــو حمــود، فــي ســنيّ مراهقتهمــا، قــد ضمِنــا كــرم عنـب مـن أحدهـم يدعـى سـركيس فـي رويسـة النعمـان. عليهمـا أن يقطفـا الكـرم ويبيعـا المحصـول مقابـل قـروش وددت أن أسـأله عن عددهـا. بقـي صندوقـان فارغـان مـن ضَمْنـة ذاك النهـار، وبضعـة عناقيــد لا تكفــي حتــى لصنــدوق واحــد، وعليهمــا أن يبيعــا كل الصناديـق. كانـا فـي حاجـةٍ ماسـة إلـى المـال. وضـع كلّ مـن جـدي وأبــو حمــود فــردة مــن حذائــه فــي صنــدوق. وضعــا أولًا عناقيــد عنــب صغيــرة فــي كعــب الصنــدوق وعلــى جوانبــه. ثــم أســقطا قليـاً مـن القـش حيـث وضعـا فـردة حـذاء، وفوقـه كومـة أخـرى مــن القــش، فالعناقيــد المهترئــة، وصــولًا إلــى وجــه الصنــدوق: عناقيــد متدليــة بارتخــاء علــى كامــل مســاحة الصنــدوق، حبــات نديـة كبيـرة تلمـع تحـت أشـعة الشـمس فيهـا مـن الإغـراء مـا يكفـي لشــرائها دون تــردد. وضــع جــدي داخــل كل فــردة حــذاء ورقــة كتــب عليهــا القصيــدة التاليــة: «يــا شــاري منــا العنبــات، إلنــا لا تـودّي مسّـبات، هالمـرة خـود الفـردي وغيـر مـرّة خـود الصبّاط.» وددت لــو أســأله لمــاذا لــم يضعــا شــيئاً آخــر مــكان الأحذيــة، أو لمــاذا لــم يضعــا فردتــي الحـ ذاء ذاتــه بــدل أن يمشــي كل منهمــا بفـردة واحـدة مـن رويسـة النعمـان إلـى بتاتـر مشـياً علـى الأقـدام. لكننــي اكتفيــت بالنظــر إلــى هــذا الخيــط الشــفاف الــذي مــا زال يكبــر فــي عينيــه.
لا تجيــد أمــي البــكاء. لــم أكــن أجيــده مثلهــا. فــي أذنــي يتــردد
لحــن مندلســون علــى الكمــان. minor E Concerto .Violon هـذا الـذي اسـتعارته فيـروز لتغنـي « لينـا ويـا لينـا، إبـرة وخيطـة عيرينــا.» بــل هــدى حــداد. بــل الأخويــن الرحبانــي. لا أرى فــي الخيــط الأســود الــذي تمــرّره الآن ســوى دواليــب ودراجــات هوائيـة، وصراخـي حيـن كنـت طفلـة، ذاك الـذي لا يلتـزم بوقت أو بمشـكلة. أنظـر إليهـا وهـي تجهـد لتمريـر القطـب علـى البنطاليـن والفسـتان. أسـمع نفَسـها وهـو يهدر فـي كل جسـمها دون أن يخرج. بالــكاد كانــت قــادرة علــى التنفــس.
أقــف خلفهــا كــي لا أرى وجههــا. لــم أعــد أتقــن الصــراخ منــذ ســنوات. والبــكاء، فهــذا مــا لا أجيــده بشــكلٍ عــام، خاصـةً عندمــا يأتــي المــوت. لا أبكــي إلا نــادراً. وعندمــا يأتــي المــوت أتسـ مّر هكـذا، كمـا تسـمرت لوقـت طويـل ذاك النهـار خلـف والدتـي دون أن أجــرؤ علــى النظــر فــي وجههــا.
بعـد سـنوات مـن يـوم التضييـق والتقصيـر، اتفقنـا والدتـي وأنـا أننـا سـنعيش حتـى سـن الثالثـة والتسـعين وأكثـر. أنا وأمي سـنصير معمّرتيــن مثــل جدتــي... أصبحــت الآن فــي التاســعة والتســعين مــن عمرهــا، ونحــن نحمــل جيناتهــا بــكل مــا فيهــا مــن محاســن ومسـاوئ. قـد تكـون عظـام والدتـي غليظـة كعظـام والدهـا، ولكـن أمراضهـا وسـرعتها وموهبتهـا فـي الخياطـة كلهـا تشـبه جدتـي مع بعـضٍ مـن مامـح جـدي؛ أنفـه الأفطـس، شـرايين يديها، وشـرايين يـدي الناتئتيـن، اللـون الزهـري ليديـن ترسـمان مسـار خيـطٍ داخـل قطعـةٍ مــن القمــاش، يــده التــي ترتجــف حيــن كانــت تبحــث عــن حبــات أدويــة الســكري والضغــط، ويــدي التــي تخــاف أن تامــس كتـف أمـي المنحنيـة أمـام ثيـاب العـزاء. هـذا كان الاتّفـاق الوحيـد الــذي أبرمنــاه علنـاً فــي مــا بيننــا، أمــي وأنــا، بخــاف كثيــر مــن الاتفاقـات الضمنيـة الأخـرى، التـي تاشـى أثرهـا شـيئاً فشـيئاً.
قبـلَ عـام، تعلمـت البـكاء مجـدداً. مرنـت نفسـي عليـه. لـم أقصـد ذلــك. فعـ اً لــم أقصــد أن يكــون الأمــر بمثابــة تمريــن يومــي أو أسـبوعي. لكـن، كانـت تحـدث الأمـور، وكنـت أجدنـي أبكـي. أنظر
إلــى حبــل الغســيل فأبكــي. أرى أطفــالًا رضَّعـاً، أبتســم ثــم أبكــي. بكيــت علــى كل شــيء. بكيــت دون ســبب. بكيــت وأنــا أســتحم، وبكيــت وأنــا أقــود، ثــم بكيــت وأنــا أحــاول أن أنظــر إلــى الأفــق، وبكيــت أنــا أصعــد الــدرج. بكيــت لأن ماســورة الميــاه انخرقــت فجـأة السـاعة الثانيـة عشـرة ونصـف عنـد منتصـف الليـل... هكـذا كنـت أبكـي وأبكـي وأبكـي. دون أن يرانـي أحـد، ثـم لـم أعـد أبالـي. بكيــت أمــام كثــر، وبـتّ أشــبه كل مــن كنــت أســخر منهــم. أولئــك الذيــن يبكــون أمــام الأفــام والمسلســات. اســتغربت كل هــذه الدمـوع التـي ذرفتهـا. قلـت لنفسـي: لا بـأس. فلتُـذرَف متـى شـاءت وأمــام مــن أرادتْ. هــذه دموعــي التــي حبســتها لســنوات، ولربمــا هــي دمــوع أخريــات... لربمــا أنــا أبكــي نيابــةً عنهــن. جدتــي ووالدتـي ولربمـا أبكـي أيضـاً عـن جـدة والدتـي. أو لربمـا هـذا مـا يطيـب لـي أن أعتقـده كـي أبـرر فيـض هـذه الدمـوع التـي ذُرفـت فـي عـامٍ واحـد.
قالــت لــي جدتــي اليــوم إن والدتهــا كانــت تقــول لهــا: «يــا بنتــي أنــا بعــد مــا خلقــت.»
• كيف يعني بعد ما خلقتي يا إمي.
• إيــه بعــد مــا خلقــت... أنــا خلقــت بــال1907 وحاطينلــي عالورقــة ...1970 يعنــي بــدي بعــد 14 ســنة لإخلــق. هيــدا اللــي ببطنــك رح يخلــق قبــل أنــا مــا إخلــق.
وُلــدت أمــي قبــل أن تولــد جدتهــا ميليــا؛ أم شــكيب. يُتِّمــت قبــل أن تولــد. زوجوهــا مــن يكبرهــا بثمانيــة وثاثيــن عامـ اً. أنجبــت منـه أربعـة شـبان وفتـاة. كل ذلـك حصـل قبـل أن تولـد. عندمـا أتـى مســعود ليخطبهــا أعطــوه إياهــا. ذهبــت معــه إلــى الضيعــة، إلــى بيتـه القديـم الـذي بنـاه قبـل أن يسـافر إلـى أميـركا. راح إلـى أميركا ثـم «سـكّر البحـر.» غـاب لسـنوات ثـم عـاد ليجـد زوجتـه وأطفالـه قــد ماتــوا جميعـاً فــي المجاعــة مــا عــدا حســن وصالحــة. أرســل صالحــة إلــى حــوران وزوجّهــا. ثــم تــزوج ذو الثاثــة وخمســين عامـاً مــن جديــد. أنجبــت لــه ميليــا شــكيب وذكيــة ومجيــد وحليــم
وسـليم. كان يقـول لهـا: «يـا مـرا إذا جـار عليـك الدهـر مـا تسـكني إلا المِـدن.» ثـم مـات. كان عمرهـا ثمانيـة وعشـرين عامـاً عندمـا مـات. أكبـر أولادهـا كان فـي الثالثـة عشـرة، والأصغـر لـم يتخـطّ الثــاث ســنوات. تــرك لهــا رزقـاً، «بــس شــو بيعمــل الــرزق لمــا متــر الأرض يصيــر ب 20 ليــرة.»...
انتقلــت ميليــا إلــى المــدن، إلــى بيــروت، وســكنت مــع أولادهــا عنــد بيــت العــود. اســتأجرت غرفــة بــ٥ ليــرات فــي الشــهر. والمطبــخ والــدار كانــا شــركة. مــا إن تســكن امــرأة فــي الحــي، حتــى يبــدأ أهــل كركــول الــدروز بماحقتهــا. «بيمشــوا وراهــا عالســكت، إذا منيحــة بيحضنوهــا وإذا لا مــا بتضايــن جمعــة، كانــوا يعطوهــا جمعــة لتتــرك البيــت.» عنــد بنــات العــود ربّــت ميليـا أولادهـا الخمسـة. اشـتغلت مـن البيـت. درّبتهـا عيناهـا علـى الخياطـة والشـك. كانـت تعمـل الشـهر كلـه لتقبـض ثـاث ليـرات. طلبوهــا أكثــر مــن مــرة للــزواج وكانــت تقــول لأفنديّــي بيــروت: «هالمــرة جيــت لعنــدي تانــي مــرة مــا بتجــي.» كانــوا يقولــون عنهــا: «إنــو عندهــا بــروة عنتــر.» لــم أســمع بتلــك العبــارة مــن قبـل. فسـرتها جدتـي بأنهـا «سـت قـادرة» ثـم أضافـت «قديـرة.» كثيـ رٌ اســتعمالها كلمـ ةَ قديــرة.
تنقلّــت جدتــي ذكيــة فــي طفولتهــا فــي بيــوتٍ كثيــرة، فــي غـرفٍ كثيـرة. مـن غرفـة عنـد بنـات العـود إلـى غرفـة فـي بيـت الضــاروب إلــى شــقة فــي بنايــة دايــة. مثلمــا علّمــت عينــا ميليــا الخياطـة، علمتهـا عيناهـا وإصرارهـا أصـول الخياطـة والتطريـز. تقــول لــي: أنــا لــم أتعلّــم الخياطــة، أنــا عربشــت علــى الخياطــة. علّمــت نفســي بنفســي. القطبــة الاســطمبولية واللقطــة. أرادت أن تتعلــم أكثــر فقصــدت بنــات نوبــر. ســليم نوبــر، كان لديــه صالــة خياطــة وتطريــز علــى مفــرق مــار اليــاس. هــي وإيفليــن وملفينــا تَعلّمــن التطريــز... ثــم انضمّــت إلــى ذكيــة وبنــات نوبــر منهــى ومناهــل. تعلّمــن التطريــز علــى النــول، الأوبيســون، الشــد علــى الطــارة، تنســيل العــدد، الأجــور...
ذات يـوم، قالـت لهـا ميليـا: «إنتـي عـم تتعلمـي لإلك... أنـا عندي عيلــة بــدو ينوقــف حــدي.» كانــت تعــود مــن ســاعات الخياطــة الطويلـة إلـى البيـت لتسـاعد أمهـا. تطبـخ، وتمسـح، وتغسـل ثيـاب أخواتهـا؛ قمصانهـم وبناطيلهـم وثيابهـم التحتيـة. تنقـع البِيـضَ منهـا وتغليهــا فــي لَكَــنٍ وتشــعل الحطــب بعــد أن تدعكهــا بالصابــون وتنقعهــا بالنيــل. تدعــك ثيــاب مجيــد المغطــاة بالطحيــن وأواعــي شـكيب التـي تفـوح منهـا رائحـة الخبـز وبناطيـل حليـم وسـليم الـذي لا يضاهيــه أحــد فــي أناقــة قمصانــه... غســلت ثيابهــم وطبخــت لهــم حتــى تزوجــت ســعيد. أنجبــت ولديــن وماتــا. مــات الطفــل بعــد أســبوعٍ مــن ولادتــه. لــم يكــن لــه اسـ مٌ بعــد. عايــدة ســقطت عـن سـطح البيـت وهـي فـي الثالثـة. ذات يـوم ركـب أخوهـا سـليم القطـار المتجـه إلـى الـدورة. كان قـد مضـى أكثـر مـن عـام علـى فتــح شــكيب، الأخ الأكبــر، فرنــاً هنــاك. تعــاون الإخــوة الثاثــة علـى إدارتـه. وكان سـليم، أكثرهـم أناقـة. هـو مـن يتدبـر حسـابات الفـرن وطلبيـات الطحيـن. كان عمـره واحدا وعشـرين عامـاً عندما سـحبه القطـار. خـرج منـه وعلقـت جاكيتتـه بالبـاب. مشـت الحافلـة وجرجرتـه أحـد عشـر متـراً. تهشـم نخاعـه الشـوكي. قضى سـنتين ونصــف بيــن مستشــفى أوتيــل ديــو ومستشــفى بخعــازي. كانــت جدتـي تعتنـي بـه. مـات.
تكثـر جدتـي اسـتعمالَ كلمـة قديـرة. تسـتخدمها فـي كل الأحاديـث والمواقـف. وهـذا اسـتخدامٌ امتـدّ لسـنوات، وسـوف يمتـدّ لسـنوات أخـرى طالمـا تنظـر إلينـا نحـن نسـاء العائلـة وحفيداتهـا، وتحـاول أن تبحـث عـن قـدر «القـدارة» فينـا. وبـروة عنتـر تلـك، علـى مـا يبـدو، هـي قمـة «القـدارة.» حاولـت أن أفهـم منهـا أي منهمـا كانـت بــروة عنتــر. جدتــي أمّ والدتهــا. ذكيــة أم ميليــا أم والدتــي. «شــو بكـي عـم بحكـي عـن إمـي»، ثـم كانـت تعـود إلـى نفسـها فتصبـح هـي بـروة عنتـر ثـم تعـود إلـى والدتهـا.
كم أود لو تدوم ابتسامتها لأكثر من دقيقة.
تستكشف رواية Domino’s Devils، من خلال نظرة طفولية صريحة، الحياة اليومية لسكان مبنى خلال الثمانينيات. في أحد أحياء بيروت، تحولت العقار الذي كان من المفترض أن يصبح مستشفى في الخمسينيات إلى مقر لحزبين سياسيين وأكثر من 50 مستأجرًا. استنادًا إلى ذكرياتها الشخصية ومستوحاة من الروايات الشفوية لأهالي حي المعلوف، تربط منى مرحي بين شظايا الذاكرة وتعيد تصور الحرب، وتعيد تمثيل العنف المستمر، وتعيد اختراع الوحدة والحب والضحك والكراهية.
في عشر قصص قصيرة شبه سيرة ذاتية تمتد من الخمسينيات حتى الوقت الحاضر، تدعو مونا القراء إلى أجزاء من طفولتها وشبابها، وهي لحظات شكلتها عجائب الطفولة وشهادتها على الحرب والفرح الذي فرضته على نفسها والأذى والبراءة.