أرملة الأجنبي

Navigation

أرملة الأجنبي

قصة من لبنان
Iman Humaydan

إنه فصل الصيف في شمال العالم (وهو فصل الشتاء في جنوبه)، وخلال شهر أغسطس تجمع مجلة Literatur.Review كل هذه القصص معًا، وتنشر قصصًا لم تترجم أو لم تنشر من قبل من شمال وجنوب عالمنا.

إيمان حميدان، ولدت في عين عنوب في لبنان، ودرست علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية في بيروت. نشرت خمس روايات وقصص قصيرة متنوعة وسيناريوهات مكتوبة، وتُرجمت جميعها إلى لغات عالمية. تتيح للنساء في رواياتها أن يكون لهن رأيهن وأن يروين قصصهن الخاصة. حصلت روايتها الرابعة „50 غراماً من الجنة“ على جائزة كتارا (قطر) عام 2016. تقوم بتدريس اللغة العربية والكتابة الإبداعية في جامعات أوروبا وأمريكا الشمالية، وتعد دورة الكتابة الإبداعية التي حصلت عليها في جامعة سانت دينيس في فرنسا أول دورة تدرس باللغة العربية حول الكتابة الإبداعية. كانت حميدان عضوًا في لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية IPAF 2022. وهي أحد مؤسسي مركز القلم اللبناني، الذي ترأسته من 2015 إلى 2022، وعضو مجلس إدارة مؤسسة القلم الدولية من 2017 إلى 2023. كتبها متوفرة باللغة العربية هنا.

خرجت من الباب رقم اربعة لقاعة الوصول في مطار بيروت، فلفح وجهها حر الصيف اللاهب. "انت وحدك... لأول مرة تصلين وحدك، ستعتادين على ذلك"، همست لنفسها وهي تجرّ الحقيبة فيما كانت أصوات قلة من سائقي التاكسي ترتفع بالسؤال. تاكسي مدام؟. 
في سيارة التاكسي التي استقلت لم يكن يوجد مكيّف او ربما السائق لم يرغب بتشغيله. من المقعد الخلفي حيث جلست، نظرت الى قفا رأس السائق، ورأت العرق يسيل على رقبته كخيط رفيع. على مداخل العاصمة بدا من المستحيل التقدم ولو بأمتار قليلة.  انتبهت الى ان السائق يتابع حديثاً لم تعلم كيف ومتى بدأ. بدا الرجل مستاءاً من كل شيء بل غاضباً. كانت ما تزال في اجواء فقدان صديقها وشريك حياتها ولم تحسن الاصغاء. غابت لمدة اسبوعين بدت لها وكأنها شهور طويلة. كان جوا رماديا في مدينة بازل السويسرية حين بقيت هناك وحيدة اثناء حرق الجثة. في اليوم التالي سلّمها الرجل العامل في المحرقة علبة معدنية فضية اللون قال لها ان فيها ما تبقى من طوماس. في تلك اللحظة لم تدر ماذا عليها القيام به، اين تضع العلبة وماذا تفعل بها. ترددت مرات لتقول له انها لا تريدها وان وجودها معها في بيروت سيكون سلبياً بالنسبة لها، ففي ثقافتها لا يحرقون جسد الميت بل يدفنونه وتبقى مقبرته مكانا لزيارة العائلة والاحباء يضعون الازهار حوله يحدثونه ويبكون. فكرت ماذا ستقول لها عمتها التي تؤمن ان أرواح الاموات تبقى في نفس المكان حيث الاحياء. عمتها تجد دائما في كل مصيبة باب ضوء. لكن  في النهاية لم تقل منى شيئا للرجل خاصة حين مدّ يده معزياً ومودعاً، موحيا لها انه اتمّ واجبه على أكمل وجه. ثم استدار وذهب بينما بقيت هي في مكانها صامتة وبين يديها علبة معدنية لا تدري ماذا تفعل بها ، تراقب من بعيد ظلالرجل الذي يبتعد والذي لم تلتق به الا مرتين. رأته يبتعد في قلب المبنى الطويل المائل الى الظلمة ثم ما يلبث ان يختفي. 

عاش طوماس سنوات في رأس بيروت وكان يُدعى ب طوم الاجنبي. قد يكون ناطور البناية هو من بدأ بادراج هذا اللقب الذي تحول الى اسم شائع للمقيم في شقة رقم 2 في الطابق الأول  من بناية حداد. وحين انتقلت منى للاقامة معه صارت تسمى بزوجة الاجنبي. هي ايضا لم يكن لها اقرباء ولا أهل تقريبا. امر لم يكن عاديا في لبنان حيث روابط الاسر والعائلات والطوائف حاضرة بقوة. قد يكون هذا المُشترك بينها وبين طوماس، اي غياب الروابط العائلية، قرّب فيما بينهما دون ان يعي أيٌّ منهما ذلك الأمر. اخبرها طوماس ان ليس لديه أحد من العائلة في سويسرا وانه كان وحيد ابويه. أما هي فكان لها عمة بقيت في بيتها في قرية صغيرة في عمق البقاع الغربي، تؤمن بالأرواح وتعالج النساء لطرد الجن من الجسد وتعيش في الماضي وتردّد قصص العائلة التي لم يبق منها فرد على قيد الحياة. كانت تزورها منى في فترات متباعدة وتروح العمة تخبرها كيف أنها ما زالت تسمع وقع اقدام الأموات من العائلة في الغرف،  وتؤكد لها أن ارواحهم ما زالت تسكن البيت. قصص سمعتها منى مرات عدة كانت تنهيها العمة بتنهيدة طويلة وهي تقول: بالنهاية سيرحل الجميع الى المقلب الاخر ولن يبقى منا احد..

في سيارة التاكسي، لم تكن منى في مزاج ان تستمع الى السائق او ترد بكلمة واحدة. تغمض عينيها  وتحاول ان ترخي جسدها المتوتر على المقعد الخلفي. عليها في أشهر قليلة ترك المكان الذي سكنته لأكثر من 15 سنة، وإفراغ الشقة، التي شاركت فيها طوماس حياته، من الاثاث والاشياء الخاصة. لن يكون بمقدورها الاستمرار في دفع الإيجار ولا حتى في المساهمة الشهرية في راتب الناطور. لم يترك طوماس شيئا كتعويض مثلا او معاش، وجزء كبير من مدخراتهما القليلة في المصرف تبخّر نفقات سفر لها لمرافقة جثته الى مسقط رأسه والاقامة في فندق لمدة اسبوعين ريثما تنتهي اجراءات الحرق. وهو بعد تقاعده المبكر وكي يبقى ويقيم في بيروت صار يعمل صحفياً "على القطعة" كما يقولون، أي يقبض لقاء كل مقال يرسله للجرائد في اوروبا. اما هي فبقيت تعطي دروسا باللغة العربية للطلاب والصحفيين الاجانب الذي ياتون ويذهبون. هكذا تعرفت يوما الى طوماس. بدأت تعليمه اللغة العربية ثم حين تطورت علاقتهما انتقلت للاقامة معه. وهاهي الآن تودّع شريكها الذي مات ولم يترك شيئا، ما عدا ورقة صغيرة يوصي فيها بكل مقتنياته وحسابه المصرفي لها. ما تجنيه لن يكفي لدفع ايجار شقتهما، وعليها ان تخلي الشقة أو تقبل مشاركة فتيات اخريات معها كما كانت تفعل سابقا مع طالبات الجامعة.  الا انها قد وصلت الى سن لم تعد فيه بطالبة ولا تستطيع ان تشارك اي شخص غريب في استعمال الحمام مثلا. كذلك لا رغبة لها ما ان تفتح عينيها صباحا أن تلتقي بأحد ولا ان تضطر لالقاء تحية الصباح على أحد. 
رغم علاقتهما التي لم تتضّح يوما إن كانت علاقة حب أم علاقة أخوّة أم صداقة أم جيرة، رغم تلك العلاقة المبهمة بينهما، كانت الاقامة مع طوماس  تلائمها، إذ هو أيضا كان قليل الكلام في أموره الشخصية، يتمتع بالحديث عن العالم الخارجي أكثر من تحدثه عن نفسه. لا يفك عقال لسانه الا بعد ان يُفرغ زجاجة نبيذ أو زجاجات عدة من البيرة. 

لسنوات لا تُحصى لم يلتق جسداهما كحبيبين. لم يتضاجعا الا مرات قليلة في بداية علاقتهما، ثم من حيث لا تدري تحولت علاقتهما الحميمة الى ملامسات ليلية. كان يلمسها ويمرر يديه على كل انحاء جسدها. كانت تفكر فيما تبدأ بالنوم بين ذراعيه ان حياتهما المشتركة جميلة لكنها تبدو كلعب الاطفال. بعد حادث اعتقاله على الحدود اللبنانية السورية توقف عن لمسها أيضا. لا تعلم ماذا جرى له، أو الى اي مدى عذبوه. تعلم جيدا انه منذ عودته من الاعتقال السوري توقف عن لمسها وصار يقضي معظم الليل في غرفة مكتبه قبل أن يستيقظ ويدخل غرفة النوم.
"احب لون قميص نومك"  يقول لها وهو جالس على حافة السرير استعدادا لالقاء جسده والنوم. جملة كهذه اعتادت عليها كأنه يشجعها بذلك على عدم التعري في الفراش. اعتادت على جمل لطيفة اخرى كان يجد دائما فرصة لقولها. جمل لطيفة هي بمثابة اعتذار عما لا يستطيع فعله. اعتذار يجدده كل ليلة بطريقة أو بأخرى.  ثم يدير ظهره وينام. 

باتت في الفراش تشعر بالعجز هي أيضا. عجز حتى عن الطلب منه ان يتضاجعا مثلا او ان يقبل شعر عانتها كما كان يفعل في بداية علاقتهما. لكنها لم تفعل. تفكر ان الحب الجسدي كالفيزياء وانها لا تستطيع أن تجبره على الانجذاب نحوها إن هو ما عاد يشعر بشيء. كان هذا يشعرها بقليل من الخجل وقليل من الشعور بالذنب.  لكن الحياة ليست صدفة تقول لنفسها وليس صدفة انهما التقيا وانهما رغم فراق جسديهما وموت الرغبة لا بد ان اسباب الحب كامنة في صفات أخرى تجمعهما. والا ما الذي يفسر تعلقهما ببعضهما البعض دون تعبير جنسي عن هذا التعلق ودون رغبة جسدية. كأن يحبان الذهاب الى السينما معاٌ، أو السير على كورنيش المنارة يده تمسك بيدها، أو يتسوقان من القرى الجبلية المآكل النباتية التي لم تتعرّض للمبيدات، او يحبان نفس الاطعمة ، واولها الاطباق الاسيوية الحارة، أو يتمتعان بلذة الجلوس معا في المطبخ يتابعان الاخبار بينما هي تحضر وجبة شهية للعشاء، وهو يسكب لها كأس نبيذ أبيض فيما يخبرها عن المقال الذي يكتبه واحيانا تخبره عن الرواية التي تقرأها والتي لم تستطع تركها في الليلة الماضية. يسكب لها النبيذ فيما تصر هي ان يعيد الزجاجة الى البراد كي تحتفظ ببرودتها. كانت تبتسم في تلك اللحظات وهي تتخيّل مشهدهما كيف سيبدو بعد عشرين سنة وبعد أن يكونا قد هرما كفاية فيتوقفا عن شرب النبيذ وعن أكل الاطعمة الاسيوية الحارة. كانت تتساءل أيضا هل من الممكن لاثنين لا شهوة جنسية لاحدهما اتجاه الآخر ان يستمرا ويشيخا معاً.  ثم حضور ذلك الهر بينهما كان يسعدها. يمرّر رأسه على أرجلهما من تحت الطاولة ليعلن حضوره الخفيف، وسرعان ما يموء مواء عميقا منتظرا طعامه. أتت به منى ذات مساء وعمره لم يكن يتجاوز اسابيع قليلة بعد أن لحق بها من امام سوبرماركت سميث وهو يموء دون توقف. شعرت انه اختارها هي وان لا بد ان تأخذه معها الى الشقة حيث تقيم مع طوماس. هرم الهر الآن وما عاد يستطيع الركض واللعب في انحاء الشقة كما كان يفعل من قبل.

كانت أحياناً تراقبه وهو نائم وتتخيل الصمت الذي يلعب بينهما كسهل منبسط تسرح فيه صور من ماضي علاقتهما، من الزمن الاول والقصير حين التقيا، حين كانت الرغبة لا يحدّها شيء، حين كان السرير يحتفل بجسديهما عاريين ينضحان عرقا وهمسا ولعابا وماء لذتيهما يرطّب أغطية السرير ويمنحها عطرا ينام معهما ويستفيق. كان زمنا قصيرا. لم يتعدّ الاشهر. لكن يبدو ان منى كما لو انها لا تريد الاعتراف بقصر ذلك الزمن وتوقفه بعد انتقالها للسكن معه، فكانت تمدّ تخيلاتها وتوّسع دائرة تهويماتها حول علاقتهما الجنسية لتشمل مدى الزمن الذي جمعهما..
فكرت بكل ذلك بينما سائق التاكسي لم يتوقف عن حديثه حول الغرباء الذين خربوا البلد:" 

شو هيدا! مصيبة وحلّت علينا. من أول ما استقل هالبلد ما شاف يوم حلو. اجوا الفلسطينية وهلق السورية ...". بدا وجه السائق المتأفف من الوضع السياسي والاجتماعي ككرة حمراء قد تنفجر في اي لحظة. ثم انتقل في تأففه الحاد حول عجقة السير والتلوث وحرارة الصيف. يقول جملة ثم يتوقف وينظر حوله، كأنه يستعد للقتال مع احد الركاب. لكن لا يوجد أحد بجانبه. منى هي الراكب الوحيد وهي تجلس في الخلف صامتة. وكلما ازداد غضب السائق كلما صارت تستدير بكل جسدها لتنظر من نافذة السيارة وليبدو رأسها من الخارج كرأس تمثال. كان السائق بين وقت وآخر،  يحوّل نظره الى المرآة الصغيرة المتدلية من سقف السيارة أمام عينيه ليبدو كأنه يوجّه الكلام الى منى مباشرة وينتظر منها جوابا على اسئلته. ثم لينهي جملته كل مرة ب" يحلوا عنّا ما بدنا غرباء... وحياة الانجيل والقرآن وكل شي في كتب مقدسة يا مدام، كانت حياتنا احلى حياة قبل ما اجوا لعنا كلن......".  ابتسمت في سرها هذه المرة. اثار تعجبها انه يحلف بكل الكتب السماوية في آن معاً. هكذا يُرضي الجميع. يحلف بكل ذلك ويكره في آن معا، بل يبدو مستعدا للقتال في كل لحظة.  "ليت الكتب السماوية تتحول الى لغة المؤنث...". فكرت منى "كم سيُصبِح الإيمان اكثر رقة، كم سيُصبِح الله أكثر أنوثة، ستنتهي كل الحروب حينها..." قالت لنفسها.

عاشت منى لسنوات مع طوماس، وطالما اعتقد الناس انهما زوج وزوجة. ورغم ان اقامة امرأة مع رجل دون زواج بات امرا شبه عادي في بيروت، صار سوء الفهم هذا يضايقها ويخلق لديها بين فترة وأخرى شعورا بعدم الامان ويدفعها الى الطلب من طوماس أحياناً أن يتزوجا . على ان وضعها هذا ولّد لديها مشاعر متناقضة. إذ انها من جهة ثانية كانت تشعر انها متميزة وأنها اختارت حياتها كما تشتهي، وانها تعيش حياة  مستقلة ومختلفة عن حيوات نساء حولها تزوجن واصبحن ربات منزل فحسب. سمحت لها تلك الحياة المختلفة بالاحتفاظ  باستقلالية خاصة، وبميزة الاختلاف عن الاخريات في المبنى وفي الجامعة حيث تعطي دروسا مسائية باللغة العربية. هذا الاختلاف كان يسعدها ويقوّي اعتدادا في النفس كامرأة حرة مستقلة. لكن بعد ان تَمّ خطفه من قبل المخابرات السورية على الحدود اللبنانية السورية وهو عائد الى بيروت صباح يوم من ايام شباط الباردة عام 2012 ، اعاد الرجل النظر في شؤون حياته وصار يقبل التحدث بالزواج. لم يكن طوماس الخمسيني رجل زواج ولم يفكر يوما ببناء عائلة وانجاب اولاد. فهو من مواليد ستينات القرن العشرين وشبّ في بلاده متأثرا بافكار الحركة الهيبية والنزعة الفردية ضد تقاليد السائد في المجتمع. لكن تجربة خطفه واحتجازه لمدة شهرين  كسرت شيئا فيه، اخافته من امر ما، ربما من المرض، ربما من الوحدة، ربما من العجز. اتى شابا الى بيروت كمراسل صحفي لتغطية الحروب اللبنانية. أحب الحياة في بيروت رغم حروبها، وقرر البقاء والاقامة الدائمة فيها، خاصة بعد أن صار صحفيا حرا يعمل لحسابه. كان يغيب لأيام واحيانا لأسابيع ثم يعود. يغطي الحروب ثم احداث الربيع العربي في تونس ومصر، ثم في سوريا. ذلك الربيع الذي تنقل من مكان الى آخر ليتحول الى حروب دموية افقدت الناس معها اي أمل بالتغيير..

كان يخبر منى كلما عاد عن تنقلاته وعن المقالات التي يكتبها حول الاماكن التي زارها، الا انه لم يخبرها اي شيء عن ظروف خطفه وعن مشاعره، وعن تدخل سفارات اجنبية لاطلاق سراحه. بعد شهرين من اختفائه عاد ومعه رجل اخر من اصدقائه. بدا كأنه عائد من احدى رحلاته الصحفية، تلك التي اعتادت عليها منذ ان انتقلت للسكن معه.  اقترح على منى ان يصطحبها الى قبرص ليتزوجا هناك زواجا مدنيا ويعودا الى بيروت كون لبنان لا يسمح باجراء الزواج المدني على اراضيه رغم انه يعترف به. هذه واحدة من جملة تناقضات النظام اللبناني "المعجزة"! لكن سرعان ما اصابه المرض القاتل ونسيا امر الزواج وانشغلا في الزيارات المتكررة للمستشفى القريب للعلاجات الاشعاعية والكيميائية. لكن العلاجات التي امتدت لاكثر من سنة ابقته حيا لفترة ما لبث بعدها ان استسلم للمرض القاتل ورحل.

تفكر بكل ذلك الان بعد أن وصلت للتو من الخارج تحمل رماد جثة طوماس المحروقة في حقيبتها الصغيرة وتستقل سيارة تاكسي لتوصلها الى شقتها في رأس بيروت الا ان السيارة لم  تتقدم سوى امتار قليلة في ازدحام سير خانق. غابت اسبوعين اذ كان عليها ان تنفذ وصية الرجل الذي عاشت معه سنوات وهي تقريبا لا تعرف اي شيء عن حياته السابقة في بلده قبل ان يصل الى بيروت ثمانينات القرن الماضي. 
كان الخيال معينا لها على الاستمرار والتأقلم. معينا على مقاومة صمت ارادت كسره لمرات ولم تفلح. لكن بقي هناك امور كثيرة يفرحان بها معاً،  كيوم خروج الجيش السوري من لبنان، او يوم اندلاع الثورة السورية أيضا. بدا كما لو انه يصفي حسابا سابقا مع قوى لم يشأ يوما الافصاح عنها. كأن الفرح المشترك بينهما كان عامّا وبعيداً عن الحميمية هو الآخر.
لم تدر ان السيارة وصلت الى امام المبنى. انتبهت الى جملة السائق الذي رددها مرات عدة: 25 الف ليرة مدام، الحمدالله عالسلامة! ناولته المبلغ ونزلت كأنها نائمة.

. أمام المصعد في مبنى حداد حيث تقيم، حيّتها سيدة تقطن في الطابق الثاني، ثم سيدة أخرى. اقتربتا لتعزيتها. هي الان بنظر الجميع أرملة الاجنبي. خطر لها أن تقول لهما انها ليست ارملة احد ولم تكن زوجة لأحد. وانها رغم ذلك كانت امرأته وشريكة حياته، وانها تفتقده وان حياتها ستكون صعبة بعد فقدانه، وانها تستحق العزاء رغم غياب الزواج. الا انها لم تقل ايا من تلك الكلمات. سمعت نفسها ترد بشكل آلي على كلمات العزاء بكلمات مقابلة وصوت  منخفض ضعيف. وقفت طويلا امام باب الشقة في الطابق الاول. بدت كأنها تستريح من عناء ما. انتبهت فجأة ان علاّقة المفاتيح التي تبحث عنها في حقيبة يدها كانت له. انتبهت ايضا انها طوال الطريق من المطار الى البيت لم تكن فقط تتذكر حياتهما معا، بل أيضا تتابع حديثا طويلا معه  كأنه لم يغادر، كأن الغياب كذبة، كأن باستطاعة قلبها ان يغفر حتى للموت..
صباحات عدة مرت بعد عودتها من السفر بدأت فيها تتعلم العيش وحيدة. صباحات ترغب فيها بالتحدث اليه . بدا لها انها لم تبدأ الدخول في حياته الا بعد موته.  لكن أخذ منها الأمر أكثر من شهرين قبل أن تجد القوة الداخلية لتمشي باتجاه غرفة مكتبه وتفتح بابها. كان عليها القيام بذلك قبل ان تخلي الشقة في نهاية العام. هناك عدد الادراج لا يحصى، البعض منها مقفل. فتشت عن مفاتيح الادراج ووجدتها على احد رفوف المكتبة خلف كتاب "رسائل الى ميلينا" لكافكا.  .

كان عليها ان تفتح وحدها تلك الأدراج.  صور ورسائل كثيرة موضبة في علب من الكرتون المقوى. وجدت بين اغراضه أشياءاً غريبة ومفاجئة مثل لباس داخلي لامرأة اكبر من مقاسها هي. وجدت ايضا لباسا اخر قديم، ربما كان قد اخبرها عنه يوما انه لأول امرأة في حياته. وجدت ثالثا ورابعا بقياسات مختلفة وكتاب بورنوغرافي وصور لنساء عاريات. وجدت الواحا من الشوكولا السوداء. وجدت أيضا سيارات صغيرة من البلاستيك ودراجات، تلك التي يلهو بها الصبيان الصغار، كذلك صورا لوالده قام طوماس بتشويه الوجه عبر اضافة لحية وشاربين كثيفين، وصورا أخرى للاب أيضا ممزقة الى جزأين. كيف لم تلحظ كل ذلك في غرفة مكتبه وبين أغراضه. كان يضعها في ادراجه لكنها لم تفتش فيها يوما.  منذ البداية وهو يهتم بامور غرفة مكتبه وأغراضه. سكَنَ الشقة قبل انتقالها اليها بكثير. اعتادت على احتلال مكانها هي فقط: قربه في السرير وعلى الكنبة في غرفة الجلوس حين ترغب بالاستلقاء للقراءة، والكرسي في غرفة الطعام ثم مكان اوسع في المطبخ وعلى الشرفة التي زرعت اصصها بالغاردينيا.
تحمل بعضاً من اشياء طوماس الخاصة والسرية وتقف في وسط الغرفة. تكتشف في تلك اللحظة أنها لم تعرفه تماماً، وانها لم تعرف يوما ما يحب فعلا وما يكره. لم تعرف يوما ما هي الاشياء الحميمية التي تعلق بها وواظب على اقتنائها أو رؤيتها أو استعمالها أو حتى تخيلها. لم تعرف الطفل فيه ولا المراهق. لم يخبرها عن ابيه ولا عن علاقتهما. كل ذلك كانت تجهله كأنها كانت تقيم، ولسنوات طوال، مع غريب. فجأة تتذكر يوم عملت على اجهاض نفسها وفقدت الكثير من الدماء. كان بعد شهرين من علاقتهما وكان عليها ان تذهب وحيدة الى مستشفى الجامعة الاميركية. ليتها ابقت ذلك الطفل، تهمس لنفسها الان. ليتها ابقت على جنينهما. يومها اصرّت الممرضة ان تسألها عن اسم زوجها. "لكنني لست متزوجة" أجابت منى وهي تغمض عينيها ممددة على سرير المستشفى. شعرت بقسوة الممرضة وهي تغرز إبرة المصل في ظاهر يدها كأنها تعاقبها. في صباح اليوم التالي عادت الى البيت تقاوم رغبة في التقيؤء.

من وسط غرفة المكتب حيث تقف، رأت من النافذة الشمس تميل الى المغيب. على الارصفة في الخارج انعكست انوار سيارات المارة.  تلمع المياه المتجمعة بركا صغيرة موحلة. انه نهاية الخريف. تشعر بالبرد فجأة وتنتبه ان ملابسها غير كافية لبرد مماثل. تغلق النافذة، تطفىء ضوء غرفة المكتب وتخرج..

استيقظت منى هذا الصباح ورغبة بالصفير مستبدة بها. لبست معطفها الواقي من المطر ثم خرجت ومشت صوب البحر. في مقهى الروضة ما زال العمال ينظفون اثار الليلة السابقة بالمياه والصابون. مشت على الارض الرطبة صوب حافة شرفة المقهى. كان المقهى فارغا. جلست وطلبت فنجانا من القهوة.

فكرت انها لا تستطيع ان تتحكم بالزمن ولكنها تحاول اللا تجعله يتحكم بها. في تلك المحاولة تعيش مشوار الحياة وتكتشف ان ما مرت به لن تمر به ثانية وان اللحظة التي عبرت هي الماضي وان السعادة التي عاشتها كأنها حركة مد وجزر تختفي ولا بد ستعود، مثل موج هذا البحر الذي تراه امامها.
 تنظر منى الى الزرقة التي تمتد أمامها وتعود الى الوراء سنوات لم تحسن عدّها. ما عاد بمقدورها ان تقول "غدا أفكر بالامر" بنفس السهولة التي كانت تقولها منذ سنوات، وحتى اثناء الحرب. لكنها ستقولها اليوم، تهمس لنفسها فيما ترشف ما تبقى من فنجان قهوتها. تنظر ثانية الى البحر المنبسط امامها وتفكر انه هرم وبدا عاجزا عن دفع الموج الى الشاطىء. ثم تروح تصفّر. يرتفع صفيرها ثم ينخفض غصبا عنها وسرعان ما تضطر الى اخذ مقدار من الهواء كي تستمر في الصفير. لا بدّ ان هذا الصوت المنبعث منها قد هرم هو ايضا.